الرياض - فهد الغريري
(يا هلا.. حياك الله في حي الغلابة)، هكذا استقبلني مضيفي وأنا أترجل من السيارة في شارع ترابي امتلأ بمستنقعات صغيرة تسربت من خزانات مياه معدنية تناثرت أمام البيوت الشعبية المبنية باستخدام الخشب والبلوك والتي لا تتجاوز مساحة بعضها المئة متر مربع.
كان الأطفال يلعبون حفاة فيما السيارات المارة تثير الأتربة على مد النظر الذي لا يمتد كثيراً، البيوت تراصت في خطوط مائلة والتقاطعات لم تكن موزونة، شوارع تضيق فجأة وممرات عرضها متر واحد فقط لا تتسع إلا لرجل واحد، يستخدمها أهل الحي للتنقل بين منازلهم والمسجد الذي تم بناؤه كيفما اتفق، أو البقالات الصغيرة ذات اللوحات المعدينة المكتوبة بخط اليد، عندما ترفع نظرك إلى السماء ستصطدم بغابة من أسلاك الكهرباء تواصلت بين أعمدة خشبية عتيقة، ثم تأتي المفارقة هناك على بعد خطوات قليلة شارع اسفلتي تقع عليه منازل أشبه بالقصور بنيت على أحدث طراز، فلا خزانات ماء خارجية، ولا أعمدة كهرباء خشبية، ولا بيوت شعبية، ولا أتربة ولا مستنقعات.
ملحوظة: نحن الآن في وسط العاصمة الرياض وإن شئت فقل شمالها وتحديداً حي (المرسلات) حيث تقع الأحياء الراقية، وحيث يتجاوز سعر متر الأرض الألف ريال بل والآلاف أحياناً، في ذات الوقت يوجد هنا مواطنون يحلمون منذ أربعة عقود بالماء، والكهرباء، والصرف الصحي، وسفلتة الشوارع في حيهم.. حي الغلابة! ويسهر سكان هذا الحي (على ضوء السراج أحياناً!) لكتابة الخطابات وإرسالها إلى الصحف و(حقوق الإنسان) والمسؤولين. (الجزيرة) ذهبت إليهم لتعرف الحكاية.. من البداية إلى (اللانهاية).
عوض محمد الحربي يعرف البداية جيداً، آثار الأربعين سنة في تجاعيد وجهه أفسحت مجالاً لتجاعيد الخمسين، قدم إلى الرياض طفلاً مع والده واستقرا في الخيام وبيوت الصفيح، ومع أنه رحل إلى المدينة المنورة فيما بعد إلا أنه عاد إلى ذات المكان بعد مرور 12 عاماً ليسير على خطى الآباء ملتحقاً بالعسكرية. كبر الأبناء وتغيرت ملامحهم.. ولكن الحي القديم الذي وصله العمران الحديث لم يزل على حاله.
(انظر هذه الفيلا الحديثة التي وصلها الماء والكهرباء والإسفلت، وانظر لهذا البيت الشعبي الذي يبعد عنها متراً واحداً فقط.. مسافة قصيرة وفارق كبير)، هكذا أشار الحربي بينما كنا نتجول في الحي مع عدد من السكان.. كان الفارق بين المنزلين متراً واحداً فقط، ولكنه يعادل سنة ضوئية!
*****
بدأت الحكاية التي لا زالت مستمرة فصولها منذ أكثر من أربعين عاماً، ففي الثمانينيات الهجرية من القرن الماضي جاء عدد من المواطنين إلى الرياض بحثاً عن الرزق الذي كان مصدره غالباً عبر الالتحاق بالعسكرية كجنود وحماة للوطن، وبسبب قلة ذات اليد لم يستطع بعض القادمين من مناطق المملكة المختلفة السكن في المناطق السكنية المأهولة والراقية في ذلك الوقت: الشميسي والمعذر والبطحاء وغيرها، وبسبب أصولهم البدوية توجهوا إلى الخلاء على مشارف الرياض فيما يسمى الآن (حي المرسلات)، حيث مبنى المساحة العسكرية، وقيادة سلاح الإشارة، وحيث يوجد شمالهم الآن مقر شركة الاتصالات السعودية، ومؤسسة البريد، ونصبوا خيامهم وابتنوا لهم بيوتاً من الصفيح واستقروا هناك.
تشابه الحاضر مع الماضي
في البداية استضافني حمود العمري أحد سكان الحي في منزله لأجد في انتظاري خمسة من جيرانه، وشاب ظل واقفاً يناولنا القهوة والشاي في مجلس صغير بأثاث متهالك داخل ذلك البيت الشعبي، بدأ الحديث أكبرهم سناً، خمسيني وخط الشيب رأسه ولحيته اسمه محمد بن حويشان المخلفي الحربي(أبو فواز) استقر في الحي عام 1396هـ: (ما كان عندنا فلوس؛ ولذلك نصبنا خيمة في البداية وبعد أن توظفت كجندي وتوفر معي بعض المال بنيت صندقة (بيت من الصفيح) ثم مع مرور السنوات بنيت لي بيتاً شعبياً ولا زلت مستقراً فيه حتى الآن). وعن الحياة في الحي سابقاً يقول: (كنا نذهب لصلاة الجمعة في المطار القديم فلم يكن هناك أي مبانٍ إلا هناك، كنا نشتري الخبز من السليمانية التي لم يكن فيها إلا مقر الدفاع المدني الذي كان عبارة عن غرفة واحدة).
وعلى ذكر الدفاع المدني يقول الحربي: (في تلك السنوات احترق أحد البيوت وحين استنجدنا بالدفاع المدني رفضوا التدخل لأنهم اعتبروا المنطقة خارج الرياض!).
فهمت من الحاضرين أن أغلبهم متقاعد وكانوا في السابق جنوداً، ولديهم أسر كبيرة العدد يصرفون عليها من معاش تقاعد يبلغ متوسطه 1500 ريال تقريباً، ينفق منه على أسر يبلغ متوسط أفرادها العشرة!
طلبت من الجميع مرافقتي في جولة على الحي لإلقاء نظرة والتقاط الصور فوافقوا بحماس، الحياة هنا لم تختلف كثيراً عمَّا رواه أبو فواز، صحيح أنهم لم يعودوا مجبرين على الذهاب إلى المطار القديم لصلاة الجمعة، أو السليمانية لشراء الخبز أو الاستنجاد بدفاع مدني لا يأتي، ولكن البيوت الشعبية لا زالت تعامل كأنما هي خارج الرياض في مسألة المياه، والكهرباء، والصرف الصحي، وسفلتة الشوارع.
يقول أحدهم: من هذه الخزانات نشرب ويشرب أطفالنا، الكهرباء ضعيفة وإذا كان هناك ضغط تنقطع عنا، والأسلاك قديمة ومكشوفة ومع هطول المطر تحصل التماسات. ويضيف حمود العمري: لا توجد لدينا مدارس، ولم يكن لدينا مركز صحي حتى قبل سنتين، والهاتف إسقاط كثيراً ما ينقطع. ويكمل مشيراً إلى مستنقع مياه صغير: عندما يأتي موسم الأمطار تتحول الشوارع إلى مستنقعات يصعب المشي فيها، وتتسرب المياه إلى البيوت وتتعطل الحياة.
كانت النفايات متناثرة على جنبات الشوارع، وحين سألت عن البلدية قال أبو علي: لا تسأل.. البلدية تأتي يوماً وتغيب أسبوعاً، فيما تمتلئ حاويات القمامة وتفيض القذارة في الشارع. وذكر أهالي الحي أنهم توجهوا إلى جمعية حقوق الإنسان، وأن الجمعية قامت بمخاطبة الجهات المسؤولة. يقول حمود العمري: إن العيش في حي مثل هذا ينافي أبسط حقوق الإنسان! وأكد العمري أن حقوق الإنسان لم يحصلوا على رد حتى الآن، وأضاف: أخبرنا الموظف المسؤول أنهم خاطبوا المسؤولين وأنهم لم يحصلوا على رد حتى الآن وقد وعدونا أنهم سيتصلون علينا حال تلقيهم الرد.
أطفال ليسوا كالأطفال
طوال تجولنا في الحي كان الأطفال يتابعون بترقب من بعيد، منظر آلة التصوير في يدي ملفت للنظر، ولكنها غير مغرية بالاقتراب والتحدث، فعلى غير عادة الأطفال كان أطفال الحي يهربون بمجرد الاقتراب منهم رافعاً آلة التصوير، كانوا يتحاشون العدسة وحاملها، ولم أستطع التحدث معهم حتى تخليت عن الكاميرا وأعطيتها لمضيفي وأنا أرفع يدي الخاليتين لأطمئن الأطفال، وبعد محاولات وابتسامات وملاطفات قرر بعض الأطفال العودة من مخابئهم خلف خزانات المياه للحديث معي.
فايز الحربي (10 سنوات) بعينيه السوداوين المشعتين يريد أن يصبح طبيباً، قال لي بكل فخر: (أنا ممتاز في فصلي ومن الأوائل)، وهنا خاطبت خالد زميله في الصف: (صحيح هذا الكلام يا خالد؟) فأكد ذلك بإيماءة من رأسه وأضاف: حتى أنا، سألت سعود (8 سنوات ) إن كان يحب الحي ومنزلهم فيه، فأجاب بعفوية: (وع.. بيتنا خربان)، وحين سألته عن طموحه وماذا يريد أن يصبح عندما يكبر قال: (أبغى اشتري بيت كبير أسكن فيه أنا وأهلي).
ماذا يقول المراهقون؟
عندما رأيت بعض الشباب يقفون في الشارع توجهت إليهم منفرداً وبادرتهم بالتحية ليبادرني أحدهم بحديث أذهلني وفاجأني، إنه الوجه الآخر من القصة، يقول معيض (20 عاماً): اسمع أذان المغرب وهذا أنا أحلف لك بالله مع الأذان أن أكثرهم كذابين، قلت له بدهشة: من هم الكذابين؟ وما هي كذبتهم؟ فقال: هؤلاء الرجال الذين كانوا يتحدثون لك عن الحي وسبق أن تحدثوا مع صحفيين آخرين فيما مضى، هل تعلم أن بعضهم لديه فلل في مناطق سكنية حديثة في الرياض؟ ولكن ما الذي يدفعهم إلى ذلك؟!
يؤكد معيض أنهم يعيشون من تأجير مساكنهم في الأحياء الراقية، حيث يقومون بقبض مبلغ الإيجار ويصرفونه في إعاشة أسرهم في البيت الشعبي بحي (الغلابة).
سألت معيض عن وضعه وحالة أسرته فذكر لي أنه جندي في الحرس الوطني، وأنه التحق بالعسكرية بعد إنهاء المرحلة الثانوية كي يستطيع توفير تكاليف الحياة له ولأسرته، أما عواد فهو ما زال طالباً في المرحلة الثانوية ويطمح للكثير، يقول عواد: أطمح إلى إكمال دراستي الجامعية والتخصص في العلوم الاجتماعية فقد أعجبني علم الاجتماع من خلال اطلاعي عليه في دراستي الثانوية. ويقول فهد طالب الثانوية الآخر: لا أحب الدراسة أريد إنهاء الثانوية بسرعة لألتحق بالعسكرية.
وعندما سألتهم عن الحالة الأمنية في الحي أكدوا لي انتشار السرقات، يقول معيض: لا بد أن يكون هناك فرد في العصابة من سكان الحي كأن يكون ثلاثة يأتون من خارج الحي ويساعدهم واحد من داخله.
وعن المخدرات يؤكد الشباب وجود مروجي مخدرات في الحي، وأن هناك زبائن يأتون من مناطق أخرى، ويضيف معيض: لدينا هنا اثنان مشهوران جداً على مستوى الرياض أحدهما سعودي والآخر يمني حتى أن الزبائن يأتون من مناطق بعيدة مثل الدخل المحدود وغيرها.
غداً.....
*أمر سامٍ كريم صدر منذ 19 عاماً.. رد الوزارة أتى بعد تسع سنوات.. والمياه تنتظر المخطط!
*ما حقيقة امتلاك بعض قاطني الحي لبيوت في أحياء راقية وقيامهم بتأجيرها لآخرين؟
*الحالة الأمنية متردية... ومروجو المخدرات يرتعون في الجوار.