Al Jazirah NewsPaper Sunday  02/03/2008 G Issue 12939
الأحد 24 صفر 1429   العدد  12939

وَجْه.. مغسول بـ(مَرقة)..؟!!
حمَّاد بن حامد السالمي

 

أنصح بتناول دواء مضاد، حتى لا تصابوا بالصداع والدوار والغثيان، من قراءة هذا الخبر المنشور قبل عدة أيام، ونصه: من أجل خمسة آلاف ريال فقط، زج (ابن عاق) بأبيه المسن في السجن. أمام شكوى الابن، اضطرت الحقوق المدنية بالعاصمة المقدسة، إلى التحفظ على الأب وبذلت جهدها من أجل حل

القضية ودياً، وتم التوصل إلى تقسيط المبلغ على الأب على عشرة أشهر بكفالة الابن الأصغر، إلا أن المشتكي أصر على كفيل من خارج الأسرة، وفيما قال الابن (45 عاماً)، بأن المبلغ المستحق عبارة عن إيجار متأخر لم يدفعه الأب الذي يسكن في منزل تابع له، يؤكد الأب الطاعن في السن (70 عاماً) قائلاً: (أنا من اشترى المنزل، وسجلته باسم ابني، ولكنه لم يقدِّر ما فعلته من أجله، فطالبني بدفع الإيجار، وحين تعثرت في السداد، سارع بالشكوى، وقذف بي إلى السجن)..!!

* وقذف بي إلى السجن..!! يا لها من صاعقة..! وأي صاعقة..؟ وكأن هذا الأب المثلوم في ولده وضناه، يترجم بهذه العبارة قول أبي العلاء المعري :

ربيت شبلاً.. فلما غدا أسداً

عدا عليك.. فلولا ربَّه أكلك..!

* أقول لكم بصدق : إن أسوأ خبر قرأته في حياتي هو هذا. أي قلب لهذا الابن العاق، ومن كان على شاكلته في هذا الزمان..؟ بل أي وجه لإنسان كهذا يقابل به الناس، وهو يجرجر والده في الشرط والمحاكم، ويدفع به إلى السجن..؟!! فهو لا يسكن أباه إلا بمقابل، وإلا رمى به في الشارع أو السجن..؟!!

* إذا خلا قلب مثل هذا الابن من الإيمان بالله، فضرب صفحاً عن آياته البينات، التي تأمر ببر الوالدين، وطاعتهم والإحسان إليهم، وتنهى عن إلحاق الأذى والضرر بهم، أو حتى مجرد التأفف منهم، وتناسى التوجيهات النبوية الشريفة، في واجب الوالدين على أبنائهم، وفضلهم في الحياة وفي الممات، وأنهم سبيل وسبب في دخول الجنة.. إذا خرج من هذا كله، أفلا تكون لديه بقية من حياء وخجل، وهو يقف أمام آخرين، خصيماً لوالده، وشاكياً له، وحابساً لحريته، ومضيقاً عليه في عيشه، ووالده المضار منه، هو سبب وجوده بعد الله عز وجل، وهو الذي أنجب وربى ورعى وعلم وكبر وأعطى. يا لهذا الوجه (المغسول بمرقة) كما يقال في أمثال العامة، لمن يجروء على الباطل، فلا خوف من الله يردعه، ولا خشية من عاقبة تمنعه، ولا خجل أو حياء يحفظ عليه بقية من إنسانيته. ولكن كما يقال في أمثال فارس: (قلب العاق شبيه بالصحراء التي تشرب بنهم مطر السماء وتبتلعه ولا تُطلع شيئاً).

* قرن عزّ وجل، بر الوالدين والإحسان إليهم، بعبادته سبحانه، وهي مدار خلق الإنس والجن كافة: (وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون)، فقال عز من قائل: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا} (23) سورة الإسراء. وكان الإحسان إلى الوالدين، من أجلّ أوامره ووصاياه سبحانه وتعالى: قال: {وَوَصَّيْنَا الْإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَانًا}(15) سورة الأحقاف. و: {وَوَصَّيْنَا الْإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَانًا}الأحقاف 15. و: {وَوَصَّيْنَا الْإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ}لقمان 14. والآباء والأمهات، هم المقدمون والمفضلون، وهم أحق الناس بما ينفق من خير ونفقة وصدقة. قال تعالى: { يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلْ مَا أَنفَقْتُم مِّنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ}البقرة 215.

* وإذْ أوجب الله البر والإحسان إلى الوالدين، وجعله مقروناً بعبادته، فرسوله المصطفى - صلوات الله وسلامه عليه وآله وصحبه - وهو المبلغ عن ربه، الذي لا ينطق عن الهوى، جعل عقوق الوالدين من أكبر الكبائر، وأعظم الذنوب. بل قرنه بالشرك بالله والعياذ بالله. قال: (ألا أدلكم على أكبر الكبائر؟ قالوا: بلى يا رسول الله. قال: الإشراك بالله وعقوق الوالدين).

* وفي الحديث النبوي الشريف : ثلاثة لا ينظر الله إليهم يوم القيامة، فذكر في أولهم العاق لوالديه. وثلاثة لا يدخلون الجنة، وذكر في أولهم العاق لوالديه.

* والبر بالوالدين، مقدم حتى على فريضة الجهاد. جاء رجل إلى النبي صلوات الله وسلامه عليه وآله وصحبه يستأذنه في الجهاد، فسأله إن كان والداه على قيد الحياة..؟ قال نعم. فقال له: ارجع.. ففيهما فجاهد.

* جاء في الأثر، أن رجلاً ضُرب، وطُولب بمال، فلم يسمح به، فأُخذ ابنه وضُرب، فجزع، فسألوه عن سبب ذلك، فقال : ضُرب جلدي فصبرت، وضُرب كبدي فلم أصبر. وسئل حكيم : أي ولد أحبّ إليك..؟ أجاب : صغيرهم حتى يكبر، ومريضهم حتى يبرأ، وغائبهم حتى يحضر. قال الشاعر العربي:

وإنما أولادنا بيننا

أكبادنا تمشي على الأرض

لو هبت الريح على بعضهم

لامتنعت عيني من الغمض

* هذا هو الأب، نموذج الحب الدافق، والحنان الدافيء، فهل من العدل أن يعامل هكذا، وبمثل ما نقرأ ونسمع كل يوم، من تنكر وجحود وعقوق، بل وأذى وضرر، واعتداءات بدنية، يقترفها أبناء عاقون ممن غضب الله عليهم، تصل إلى حد القتل ..؟ نسأل الله العفو والعافية.

* لم أجد شاعراً عربياً، صور شكوى وعتب أب على ابنه، مثلما فعل (أمية بن أبي الصلت الثقفي)، الذي قال:

غذوتك مولوداً.. وعِلْتك يافعاً

تعِل بما أُدني إليك وتنهل

إذا ليلة نابتك بالشكو.. لم أبت

لشكواك.. إلا ساهراً أتململ

كأني أنا المطروق دونك بالذي

طُرقت به دوني وعيني تهمل

تخاف الردى نفسي عليك وإنها

لتعلم أن الموت حتم مؤجل

فلما بلغت السن والغاية التي

إليها مدى ما كنت فيك أؤمل

جعلت جزائي منك جبهاً وغِلظة

كأنك أنت المنعم المتفضل

فليتك.. لم ترع حق أبوتي

فعلت كما الجار المجاور يفعل

وسميتني باسم المفند رأيه

وفي رأيك التفنيد لو كنت تعقل

تراه معداً للخلاف كأنه

برد على أهل الصواب موكل

* إن عقوق الابن لوالديه مثل فقدانه، فقد جاء في قول مأثور: العقوق ثُكْل من لم يَثْكَل. ذلك أن الأبناء، إما أنهم يحيوا سيرة وأمجاد آبائهم، أو يميتوها حتى وآباؤهم على قيد الحياة. قال الشاعر:

والمرء يحيي مجْدَه أولادُه

ويموت آخر.. وهو في الأحياء

* اللهم عافنا وعافي أبناءنا وبناتنا، من عقوق الآباء والأمهات، واجعلنا ما أحييتنا، مذعنين طائعين بارين إلى يوم الدين.

assahm@maktoob.com
لإبداء الرأي حول هذا المقال أرسل رسالة قصيرة SMS  تبدأ برقم الكاتب 5350 ثم إلى الكود 82244

 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

رأي الجزيرة

صفحات العدد