رقيقة كالطحين، تجلس في منتصف الدار محنية الظهر تدير قرصها الحجري كأنه الأيام، لا تمل السير بها أو معها.
دائماً ما تنهض يديها في استدارة رتيبة تستدير لها الذكريات في رأسها ليكتمل كوكب حلم لا يلبث أن يتلاشى جزء منه في جمع محصول الدقيق.
في كل يوم تلتصق يدها في عصى الرحى، حركة روتينية ترسل الأفكار من المنتصف دوامات تأخذها في غناء حزني ورحلات طالما أتت إليها بهموم سود تتشبث بأصابعها، تنتقل إلى باقي جسدها سريعاً عبر الخلايا وكلما أبحرت الأفكار في جسدها أكثر زادت كثافة الخوف لترتجف يدها بسرعة, تستعجل غيبوبة العمل لتعلق بأثر الحزن فيها فترديه إلى نوم سحيق ولا يدفع شيء ما ثمن هذا الانهاك ككتفها المحموم بالعمل.
لم يكن ليكفي كتفها اللاهث كف تستند على الأرض ليستريح ولا حتى قلب يتشاغل عن ناره حين يوشك على التفحم احتراقاً.. كتفها ذاك كان الجزء الوحيد المحروم من التحديق في ما عدا الرحى الدائرة.. أما عيناها فكان لهما نصيب الحرية في تأمل كل شيء.. من جدران الدار التي تتوسطها إلى ذرات الدقيق متسلقة الغبار.
دائما ما كانت الشمس تمرها إلى الجدار الأيمن ليغتسل وهي قابعة في مكانها لا تجيد فن الاغتسال بالشمس كما تجيد التأمل.. تنظر إلى هذا وهذا والحبوب المتكومة كآلاف البشر الذين ينتظرون نصيبهم في التهذيب وحسب.. دائماً ما كان الليل معربداً يستطيع استباحة كل الأشياء عدا غناءها وأفكارها ويديها التي لم يحاول الكسل التسلل إليها مرة.
لم يكن يشاركها الأرق سوى رحاها التي لا تود الراحة لاستقبال حجر جديد.
كانت ذات ليلة تشبه سابقاتها تبكي وهي تتساءل (ما الذي أملكه حقاً سوى ثوبي وتقود ورحى).
اختلطت إجابتها بصوت احتكاك الحجرين..
كان لهما احتكاك مألوف يشبه بالدموع للخطاب لم يتملكها الحزن بما يكفي من الألم.. وبرغم أن أفكارها جزء لا يتجزأ من روحها ورأسها ويديها والدقيق إلا أن لوحدتها عمل تجمير يوهمها بخطاطيف شريرة هي من تزج الأفكار إلى روحها المرهقة بكل قسوة كانت تشعر بأنها بين حجري الرحى تماماً.
بين التقاء الثقل بالثقل.. عندما بدأ الألم يدب في روحها بصوت يئن.
(سيء أن يمسك بجسدي هذا الثوب رغماً عنه.. لم دائماً أرتديه ولا يرتديني مرة؟ المشجع أنه لن يتركني.. سيظل يحيطني بعنايته ما استطاع.. حتى بعد ذبول كتفي كوردة يغادر شبابها سريعاً.. نعم لن يتركني.. أترك هذه الرحى) تغمض عينيها فتتربع في امتداد الظلام الرحى تلك التي دائماً ما تسللت إلى روحها تارة كصديق وتارة تصبح عملاً يشبه دوامة نسيان لا يمل البحث عن حياة يقتلع آلامها بألم أكبر (متى ستتسلقين هذه الهوة بين الدقيق وصدري).
هكذا سألتها حين لم تتوقف الرحى لتنصت لتبعثرها هكذا أنقض ثعبان الأسئلة على نسيانها وحرك مياه الموت الراكدة.
متى سأشهد اتخاذك لما فوق القلب استراحة؟
تنطلقين في تمدد مريح يزيد ثقلاً.. كلما أوشك عمري على لمس نهايته..
من سيحاول رفع الرحى معي حينها؟
هل تراني سأبكي حرقة حينها؟ حاجة للذين ماتوا حين فرحت بتخلقهم في أحشائي وعلى الذين لم يتخلفوا وعلى الذين لم يأتوا بعد..
أم هل ترى سأبكي وحدتي التي ستزيد حتماً في ظل وجود أحجار تخنق قلبي..؟
ليت شعري لو تتحقق الأمنية فينقشع هذا المساء عن وجه المحسن الذي سينهضني عندما تنطحن يداي إلى دقيق لا ينفع ولا يصلح للبيع بل عندما تركن أشيائي جميعها إلى صمت وسكون هو إضعاف ما أجده الآن.. حين تستحيل أمواج قوتي إلى بحر أزرق بارد يوشك الليل أن يسقط فيه ليسودهما..
ما سيكون مصير آمالي؟ وآلام ستؤول؟
هل سيمتد فيها الحذر لأعمق من هذه المسافة!!
لا بد وأني سأتكون في مجملي قدر متصلب في أطرافي..
من سيجمع لي لحظات سعادة يغذيني بها ساعة يصبح الفرح طحيناً يبعثره عبث الريح المحلقة بعيداً.
شفافية روحي ستعلن الخطر مرغمة لن يمرها من يتسنى له لمسها برقة لا تخدش الحرير!
أيكون هناك من يتكون لأجلي قلباً طيباً يعطيني في عز حاجتي للعطاء!
لن أرى معجزة السكن في عيني أحد كوطن لا يحتاج سوى الحب لن يأتي أحد لينهضني حين يكون السقوط بداً.
ولن أحاول النهوض.
(لن يكون هناك أحد)
كانت هذه حقيقة تساقط معها الليل كسفا إلى صدرها يرتطم بقوة ينهش مشاعرها فيهطل قلبها نحو السماء بدعاء له طول الرجاء وعرض الحلم:
(اللهم لا تجعلني فقيرة لمن سواك.. أسألك أن تعجل أجلي قبل وهني).
بكت وبكت حتى انطلق صوت الآذان يحتضن صدرها المرهن.. يمسح على قلبها بيد بللها العزاء ندياً طاهراً بين الأمل واليأس ظلت الساعات تلهث في تتابع عجل يمرها اليوم محملاً بأفكار دامعة وعزاء عذب..
نهرها محض عرق.. كما أن ليلها أرق شديد..
وهي تبقى في تكرار ممل، تقدم شبابها للرحى لتمتصه
تتأمل أيامها تنطحن بين حجرين.. ولا تجد سوى بقائها تطحن.. وتطحن.. وتطحن.
عن وهج الحياة للإعلام