Al Jazirah NewsPaper Tuesday  08/04/2008 G Issue 12976
الثلاثاء 02 ربيع الثاني 1429   العدد  12976
ثقافة الحسبة وحقوق الإنسان
د. عبد المجيد محمد الجلال

تتسم المجتمعات الإنسانية على وجه العموم بالحراك المتجدد، الذي يمتد إلى جوانب الحياة، وسائر النشاط الإنساني. ولكل حقبة تاريخية خصائصها، وملامحها، وأدواتها، وتحولاتها الديموجرافية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية. والمجتمعات الإسلامية جزء طبيعي من نسيج هذا الحراك الإنساني بكل أدواته وملامحه.

على سبيل المثال، وبما يخص النظم الإدارية والاجتماعية، والمنتج الثقافي، والرؤى والفكر، والعادات والتقاليد، فإنَّ المطَّلع على تاريخ الحضارة الإسلامية سوف يجد تغيرات أساسية، وتحولات هيكلية، وحراكاً اجتماعياً متعدد الجوانب والاتجاهات، جعل لكل حقبة تاريخية إسلامية مزيجها الثقافي المتنوع الخاص بها.

والحسبة كأداة ونظام اجتماعي فاعل في البنيان المجتمعي الإسلامي، خضعت بدورها لجملة من التغيرات في طبيعة وظائفها، ومجالات عملها، وآلية حراكها.

في عصور الإسلام الأولى كانت وظائف الحسبة واسعة ومتشعبة، ومجالات عملها تمتد إلى معظم أوجه النشاط الإنساني، إذ كانت المجتمعات الإسلامية في تلك الفترة تسود أجواءها أنماط الحياة الاجتماعية البسيطة، على مستوى الدولة والمجتمع. فلم تتشكل بعدُ مؤسسات المجتمع المدني، وتقسيمات العمل العام، وتنظيمات الدولة الحديثة بكل تفريعاتها الوظيفية والخدمية.

ومن نماذج شمولية أعمال الحسبة في عصور الإسلام الأولى لجزء كبير من النشاط الإنساني، يسرد ابن القيَّم في كتابه القيِّم (الطرق الحكمية في السياسة الشرعية) أبرز اختصاصات المحتسب في تلك الفترة، فيقول: (ويأمر - والي الحسبة - بالجمعة والجماعة، وأداء الأمانة والصدق، والنصح في الأقوال والأعمال، وينهى عن الخيانة، وتطفيف المكيال والميزان، والغش في الصناعات والبياعات، ويتفقد أحوال المكاييل والموازين، وأحوال الصناع الذين يصنعون الأطعمة والملابس والآلات، فيمنعهم من صناعة المحرم على الإطلاق كآلات الملاهي، وثياب الحرير للرجال، ويمنع من اتخاذ المسكرات، ويمنع صاحب كل صناعة من الغش في صناعته، ويمنع من إفساد النقود وتغييرها) ويقول في موضع آخر (ويدخل في المنكرات ما نهى الله عنه ورسوله من العقود المحرمة، مثل عقود الربا، وعقود الميسر كبيوع الغرر، ومن المنكرات تلقي السلع قبل أن تجيئ إلى السوق، والاحتكار لما يحتاج الناس إليه، فعلى والي الحسبة إنكار ذلك جميعه، والنهي عنه، وعقوبة فاعله) انتهى.

وفي الحقب الزمنية المتتالية، ومع ظهور تنظيمات الدولة الحديثة، وأدواتها، واستحداث الإدارات المدنية لمباشرة مهام العمل العام، توزعت وظائف الحسبة إلى حدٍ كبير نسبياً على هذه الإدارات، بل ومع استمرار التطور المدني والمجتمعي، ألغت معظم المجتمعات الإسلامية أدوار الحسبة والمحتسب.

في المقابل، ظلت التجربة السعودية حالة استثنائية، ومتميزة، إذ أرست قاعدة أساسية توازنية في تنظيمات الدولة الحديثة، جمعت بين متطلبات التقدم المدني والمجتمعي، من جهة، واستمرارية أداء شعيرة الحسبة من جهة أخرى، بل إنها سعت إلى ترسيخ مبادئها داخل نسيج المجتمع السعودي، وتثبيتها ركناً أساسياً من أركان الدولة، فجاء في المادة الثالثة والعشرين من النظام الأساسي للحكم (تحمي الدولة عقيدة الإسلام، وتطبق شريعته، وتأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر، وتقوم بواجب الدعوة إلى الله).

في المرحلة التاريخية الراهنة ينبغي إدراك واستيعاب طبيعة التحولات الديموجرافية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية للدولة والمجتمع السعودي، ووضعية الانفتاح الراهن على الثقافات الأخرى، والتأثيرات المحتملة لهذا التمازج والتنوع الحضاري والثقافي، خاصة بعد انضمام المملكة لمنظمة التجارة الحرة العالمية، والتدفق المتوقع للشركات والعمالة الأجنبية، وانعكاس ذلك كله على طبيعة الحراك الاجتماعي والثقافي داخل المجتمع السعودي، والذي أضحى أكثر تقبلاً للتنوع الفكري والثقافي، وأكثر تأثراً بالمنتج الثقافي الوافد.

كل هذه التغيرات الثقافية والهيكلية وحتى النفسية، تستلزم بالتأكيد إعادة صياغة لثقافة الحسبة بما يكفل إنجاز رسالتها في حراسة الفضيلة على أكمل وجه، والمحافظة في الوقت نفسه على التفاعل والشراكة القائمة بينها وبين شرائح المجتمع المختلفة، في سبيل تعزيز مكانة هذه الرسالة وقيمتها السامية، من خلال النهوض بأدوات التطوير والتحديث، ومعالجة كافة الثغرات أو المعوقات التي قد تخترق أسس العلاقة النسيجية التي تربط بين شعيرة الحسبة والدولة والمجتمع السعودي، وبما يحافظ على استقرار المجتمع وتماسكه.

على صعيد الوضع الراهن، ومن أجل تفعيل عناصر هذا التفاعل وهذه الشراكة أقرت الرئاسة العامة لهيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر خطة تطويرية شاملة للرفع من قدرات العاملين في الحسبة، لمباشرة المهام وفق إطار عملي منضبط، تتضمن جملة من البرامج المتخصصة والمتنوعة ( إدارية وإعلامية، وشرعية) لصقل مهارات العاملين، واستيعاب المزيد من العلوم ذات الصلة بفقه الحسبة، والعلاقات الإنسانية، والنظم الجنائية، خاصة نظام الإجراءات الجزائية الصادر في عام 1422هـ، إضافة إلى برامج لتأهيل المدربين، وتأهيل القيادات، والتواصل الإلكتروني، ونشر المعرفة.

ولكن تظل المسألة الأهم، والركن الأساس في ثقافة الحسبة، تكمن في (أساليب التعامل) في كافة إجراءات مباشرة المهام، بما يحفظ للمتهمين أو المضبوطين حقوقهم الإنسانية، وكرامتهم الشخصية، وخصوصياتهم الذاتية.

ولعلَّ من أبرز مفردات أساليب التعامل هذه: التجمل بقواعد السلوك الحسن قولاً وفعلاً، والتحليِّ بقواعد الانضباط وفقاً للنظم واللوائح والتعليمات الصادرة، والحكمة والتروي واستعمال الرفق واللين، بما يكفل استيفاء ميزان العدل والقسط في كل الإجراءات المتبعة، والتنسيق الفعَّال مع الجهات الأمنية الأخرى ذات الصلة في مباشرة ضبط الوقوعات، وعدم الإقدام على بعض التصرفات أو الاجتهادات الشخصية خارج إطار هذه النظم والتعليمات، بما يؤدي إلى إشكالات قد تمس بحياة الإنسان وحقوقه المكفولة له شرعاً ودستوراً.

وقد شَّدد معالي الرئيس العام لهيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر على أهمية قواعد الانضباط هذه، حين وجَّه العاملين في جهاز الحسبة بعدم مباشرة إزالة منكرٍ إذا ترتب عليه الوقوع بمنكر أكبر).

كما أنَّ مذكرة التفاهم التي تمَّ الاتفاق عليها بين الرئاسة العامة لهيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وهيئة حقوق الإنسان السعودية تدخل في إطار الرغبة المشتركة في التعاون والتنسيق والمتابعة بما يكفل أداء متطلبات هذه الشعيرة العظيمة، في إطارٍ من احترام حقوق المواطن والمقيم والزائر.

إنَّ التصرفات والاجتهادات غير المنضبطة بقواعد النظم واللوائح والتعليمات الرسمية، قد يضر العمل الاحتسابي برمته، ويُضْعفُ نسبياً من قوة ومتانة النسيج الذي يربط بين رجال الحسبة ومعظم شرائح المجتمع، وربما يؤدي إلى توترٍ واحتقان داخلي، يزيد من التأزم الاجتماعي والإعلامي، ومن ثمَّ تبدو أهمية تفعيل بوابتي: الرقابة والمحاسبة بصورة صارمة لمعالجة كل التصرفات والاجتهادات التي تنتهك مبادئ حقوق الإنسان وخصوصياته، وحتى يمكن أن تظلَّ هذه الشعيرة رايةً خفاقةً، وسفينة نجاة لهذا المجتمع، تبحر بأهله إلى شواطئ الخير والفضيلة، والأمن والسلام، والحق والعدل، وتتصدى لأمواج الرذيلة والمنكرات، بكل قوة وبأس، وهمِّة وعزيمة، وشجاعة واقتدار.




 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

رأي الجزيرة

صفحات العدد