Al Jazirah NewsPaper Tuesday  15/04/2008 G Issue 12983
الثلاثاء 09 ربيع الثاني 1429   العدد  12983
د. الباتلي معقباً على د. يماني:
اتفقت النصوص على عدم جواز الاحتفال بيوم مولد النبي صلى الله عليه وسلم (1-2)

سعادة رئيس تحرير صحيفة الجزيرة الموقر

بعد التحية والتقدير لجهودكم الإعلامية، أحيط سعادتكم بأنه قد نشر في جريدة الجزيرة العدد رقم (12965) بتاريخ 20 ربيع الأول من عام 1429هـ رد لمعالي د. محمد عبده يماني بعنوان: (الاحتفاء غير الاحتفال)، ولكوني سبق لي الرد على مقال معاليه السابق والذي كان عنوانه: {وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ} في العدد رقم 12962 بتاريخ 17 ربيع الأول عام 1429هـ، فرغبت الرد مرة أخرى على مقاله الذي يزعم فيه تفريقه بين (الاحتفاء والاحتفال).

ولأني لم أقف على أي رد عليه في الاستدلال بهذه العبارة الموهمة؛ رأيت القيام بذلك سائلا المولى -عز وجل- العون والتوفيق، معتذرا عن طول المقال لما يقتضيه من التوسع في قضاياه العقدية والحديثية واللغوية.

فأود أن أشير في بداية مقالي إلى أن قول الدكتور: (الاحتفاء غير الاحتفال): غير مسلَّم، من وجوه:

1- التفريق بينهما دليل عليه لا له؛ لأنه لا منازعة في الاحتفاء بخلاف الاحتفال، وهو من دعاة المولد، وهو احتفال.

2- أن المعنى فيهما واحد، والعبرة بالمقاصد والمعاني لا بالألفاظ والمباني، وهذا أمر مقرر لدى كافة العقلاء، فضلا عن الأديان والشرائع، ومعلوم أن تغيير الأسماء لا يغير من حقائق المسميات شيئاً، ومن ثم لا يغير حكمها قطعاً، وما ذهب إليه د.يماني هو من باب تسمية الأشياء بغير أسمائها.

3- أنه يطلق أحدهما مكان الآخر، وإن غلب كل منهما على معنى كما سيأتي تفصيله من كتب اللغة.

4- أن الدكتور نفسه يطلق أحدهما مكان الآخر، ويعتبر بهما في سياق واحد، ومن ذلك: قوله في مقال: (من هنا يبدأ الحب لرسول الله صلى الله عليه وسلم)، الذي نشر في جريدة الجزيرة، العدد 12602 في يوم السبت، بتاريخ 12 ربيع الأول، عام 1428: (فقد دأبت أمم الأرض كلها على الاحتفال بالأحداث العظام التي تمر بها في تاريخها وتحتفل بذكرى العظماء من رجالها ومفكريها وقادتها)، إلى أن قال: (هذا النبي الكريم ألا يستحق من أمته أن تحتفي بيوم مولده، ومن هنا فإن من واجبنا ونحن نحتفي بسنته ونتبع سيرته أن نقتدي به ونفعل كما فعل...).

وقد رد على هذا المقال في حينه: الشيخ د. صالح بن فوزان -حفظه الله ورعاه-، في (7 ربيع الأول 1428)، بل في نفس المقال الذي عقب فيه على {وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ}، والذي نشر في جريدة الجزيرة العدد (12956)، وتاريخ (11 ربيع الأول 1429) قال: (من واجبنا أن نقتدي به، ونفعل كما فعل، ونحتفل بهذا اليوم بما يليق به، وبالطريقة التي سنها عليه الصلاة والسلام...) إلى آخر كلامه.

5- أن الدكتور لم يبين الفرق بينهما، وإنما ترك الأمر على عواهنه، والحبل على غاربه.

6- أن التفريق بينهما مبحث لغوي قبل أن يكون شرعياً أو متعلقاً بالشرع، وعلى حد علمي ليس للدكتور عناية بعلوم اللغة، بل متخصص في الجيولوجيا، وظاهر من المقال والتفريق بين اللفظين أنه لم يكلف نفسه الرجوع إلى أحد طلبة العلم المختصين في اللغة، فضلاً عن الرجوع للمعاجم اللغوية.

7- أنه قد درجت عبارات الباحثين على استعمال إحدى الكلمتين مكان الأخرى كما هو معهود في فهم القارئ، والناس إنما يحدثون بما يعرفون، والعادة محكمة، والعرف معتبر في رد معاني الألفاظ وحقائقها إليه. فهذا أحد كتاب المولد في دولة الإمارات، وهو من أنصار الموالد، ألف كتاباً بعنوان: (بلوغ المأمول في الاحتفاء والاحتفال بمولد الرسول)، فاستعمل الكلمتين، وهذا من باب التنويع في التمثيل، وإلا فيكفي التمثيل الأول من كلام الكاتب نفسه.

8- أن الدكتور محد عبده يماني عبر في التفريق بينهما بالغيرية، فقال: (الاحتفاء غير الاحتفال)، وهذا على إطلاقه غير مستقيم، ولا سيما في مثل هذا المقام، لأن دائرة الغيرية أوسع وأعمق في الخلاف من دائرة النحوية، فالغيرية أعم بحيث تطلق على المتضادين والمتناقضين، كما تطلق على المتداخلين بتحفظ وتقييد، أو بتسامح في التعبير، بخلاف النحوية فإنها أخص، فإنها تطلق على ما بينهما علاقة ورابطة من وجه، كالعموم والخصوص ونحوهما، والاحتفال والاحتفاء معناهما متقارب وبينهما تداخل فالنسبة بينهما نسبة العموم والخصوص.

9- أن الاحتفال والاحتفاء لفظان متغايران لفظاً، فلا بد أن يكون بينهما نوع من المخالفة معنى، ولا سيما على قول من لا يرى وقوع الترادف في اللغة، يمكن التفريق بينهما من وجوه:

أ- أن الاحتفاء: الإكرام أو المبالغة فيه، ولا يلزم أن يكون على وجه خاص بخلاف الاحتفال، الذي له طقوس أو مراسيم معينة، نقل الأزهري في تهذيب اللغة: (عن أبي عبيد عن الأصمعي: حفيت إليه في الوصية بالغت قال: تحفيت به تحفياً، وهو المبالغة في إكرامه).

ب- الاحتفال نوع من الأعياد يتكرر في موعد محدد كالعيد، بخلاف الاحتفاء، فإنه عموماً تعظيم الشيء مطلقا بدون تحديده بزمن معين أو مكان محدد، وبدون أن يتكرر كل عام.

ج- الاحتفال أخص من حيث كونه للجمع، أو للجمع الكثير، بخلاف الاحتفاء فقد يكون من شخص واحد، ولذا يقال: احتفل القوم، ولا يقال احتفل الرجل إلا نادراً!

- قال ابن دريد في الجمهرة في اللغة: (الحفل: الجمع الكثير. ويقال: احتفل القوم احتفالاً، إذا اجتمعوا.. واحتفل لنا فلان، إذا أحسن القيام بأمورهم. وجاءوا في جمع حفل، أو كثير. والمحفل: الجمع من الناس، ويجمع محافل).

- وقال أبو عبيد في غريب الحديث: (كل شيء كثّرته فقد حفلته، ومنه قيل: قد احتفل القوم إذا اجتمعوا كثروا، ولهذا سمى محفل القوم، وجمع المحفل محافل).

- وقال الزمخشري في أساس البلاغة في أصل (حفل): (حفل القوم واحتفلوا: اجتمعوا.. وهذا محفل القوم ومحتفلهم.. واحتفل وتحفل: تزين، ولبس ثياب الحفلة أي الزينة).

- وقال في القاموس في أصل (حفل): (والقوم حفلاً: اجتمعوا، كاحتفلوا. وتحفل: تزين، والمجلس: كثر أهله. وضرع حافل: كثير لبنه... وجمع حفل وحفيل: كثر وجاؤوا بحفليتهم: بأجمعهم. والمحفل كمجلس: المجتمع، كالمحتفل. والاحتفال: الوضوح، والمبالغة كالحفيل، وحسن القيام بالأمور).

والحاصل أن يقال: بين اللفظين عموم وخصوص مطلق، فالاحتفاء أعم، والاحتفال أخص، وهو جزء منه وداخل تحت عمومه، فكل احتفال احتفاء، وليس كل احتفاء احتفالاً.

وبيان ذلك من وجهين

(السماع والقياس):

الوجه الأول: السماع:

وبيانه: أنه لا فرق في اللغة - فضلاً عن المعنى والحكم- بين الاحتفال والاحتفاء ما دام فيه اجتماع للناس وتخصيص له بيوم معين، فالعبرة بحقائق الأشياء وما هي عليه في الواقع، كما قال العلماء: العبرة بالمقاصد والمعاني لا بالألفاظ والمباني.

قال الجوهري في الصحاح: (وحفلت كذا، أي باليت به، يقال لا تحفل به) أي: لا تبالِ به.

وعند ابن سيده في المحكم والمحيط: (وما حفله، وما حفل به، وما احتفل به، أي ما بالى).

وفي المعجم الوسيط: (الحفل) من كل شيء ما اجتمع منه والجمع العظيم، يقال: عنده حفل من الناس، ويقال -أيضاً-: جمع حفل كثير، وهو ذو حفل مبالغ فيما أخذ فيه من الأمور.

(الحفلة) الزينة والاحتفال، يقال: أقام له حفلة استقبال، والمبالغة في الأمر والاهتمام به، يقال: أخذ للأمر حفلته جد فيه، ويقال جاؤوا بحفلتهم بأجمعهم.

(الحفيل) الكثير يقال: جمع حفيل.

(المحتفل) مكان الاجتماع ومحتفل الشيء معظمه.

(المحفل) مكان الاجتماع والمجلس (ج) محافل. انتهى من معاجم اللغة.

فأنت تلحظ أن الاحتفال يطلق بمعنى الاهتمام بالشيء والاعتناء به، وهو معنى الاحتفاء، كما أن الاحتفاء أعم من الاحتفال ولذا يصح أن يقال عنه إنه احتفاء، لأنه نوع منه، كما يقال في عرفنا الحاضر: استقبل بحفاوة وتكريم، وقد يكون الاحتفال بقدوم الشخص ضمن هذه الحفاوة.

الوجه الثاني:

القياس والاشتقاق:

وبيانه: أن العلاقة اللفظية والمعنوية بين اللفظين قوية، فبينهما تقارب في اللفظ والنطق، كما أن بينهما تقارباً في الحقيقة والمعنى، وذلك من خلال الاشتقاق الأصغر وإرجاع الفروع إلى أصولها الجامعة، وهذا الذي بنى عليه الإمام اللغوي ابن فارس كتابه القيّم (معجم مقاييس اللغة)، ومما قال فيه: (حفل) الحاء والفاء واللام أصل واحد، وهو الجمع. يقال حفل الناس واحتفلوا، إذا اجتمعوا من مجلسهم. والمجلس محفل...).

10- أن الدكتور يرى التفريق بين (الاحتفاء والاحتفال) والمقصود -كما هو ظاهر- التفريق بينهما معنى وحكماً لأنه لا معنى للتفريق بينهما لفظاً؛ إذ هو واضح ضرورة.

فإذا كان الدكتور يرى الفرق بينهما حكما فيجوز الاحتفاء ويحرم الاحتفال - والموالد منه- فلا كلام لنا حينئذ معه، ونقول له: جزاك الله خيرا على السعي في إبطال بدعة المولد وإحياء شعيرة حب النبي صلى الله عليه وسلم وإكرامه وتعزيزه وتوقيره، وليس لنا في الرد والتعقيب حظ من حظوظ النفس، بل الأمر كله نصرة لدين الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم.

- أما إن كان يرى أن الفرق بينهما إنما هو في المعنى فحسب، وأما الحكم فكلاهما مشروع، وإنما أراد أن يصحح لنافذة الرؤية؛ لكونه أخطأ عليه ونسب له ما لم يقل، فنقول: لا معنى ولا داعي لرده ما دام أنه يرى مشروعية الجميع؛ لأنه قد يفهم من رده أنه متبرئ من الموالد والاحتفالات، مع أنه يقول بها.

- على أن الدكتور قد قال في رده على من تعقب مقاله: (والاحتفال غير الاحتفاء، والرسول صلى الله عليه وسلم إنما احتفى بمولده والصيام، وعلمنا ذلك، وتبعه الصحابة رضوان الله عليهم، ولم يثبت أنه احتفل أو أقام أي احتفال بهذه المناسبة)، وهذا فيه إجمال، فلا أحد يقول: إن المولد من السنة بمعنى أن النبي صلى الله عليه وسلم سنه، ولا من هي السلف الصالح، هذا لا خلاف فيه، كما أنه لا خلاف أن الاحتفال بمولد الرسول بدعة، وإنما المنازعة من المبتدعة هل هو بدعة حسنة أو سيئة، والدكتور -فيما يظهر- من أنصار القول بالتقسيم.

ولذا قال في رده على من تعقب مقاله عن الاحتفاء بيوم الاثنين والذي سماه (الاحتفاء غير الاحتفال) ومما قال عن الموالد: (وهذه الاحتفالات التي تتم في أنحاء مختلفة في عالمنا الإسلامي إنما تمت بناء على اجتهادات من قبل أصحابها، وهي تختلف تماماً عن قضية الاحتفاء الذي ذكرناه، وكلما التزم الناس في احتفائهم بقواعد الشرع من قراءة للقرآن والدعاء والصوم، كانوا في إطار السنة، وأما الذين يحتفلون بصور فيها مخالفات شرعية أو إجراءات لا تتفق بأي حال من الأحوال مع مقام هذا النبي الكريم، وما أوصانا به من السير على نهجه، والالتزام بسنته صلى الله عليه وسلم، فهذه أمور غير مقبولة ما دامت تصادم الشرع الحنيف).

فقد حكم بسنية الموالد، ولم يقتصر على الإباحة، ومر على حكمه على استحياء، وركز على حكم ما يحصل فيها بغض النظر عن أصلها، والأصل الحكم على الأصل، أما الحكم على ما يحصل فيها فجهة أخرى منفكة في الأصل، ولها أحكام أخرى تخصها، كالشركيات والبدع والمنكرات والفواحش التي تحصل في الموالد، فلها أحكامها المعروفة غير حكم المولد نفسه هل هو في السنة أو البدعة، وهل هو من الأمور المشروعة أو الممنوعة؟

وأنا حين أقول هذا لا آمن أن يقوم الدكتور -أو غيره- فيما يستقبل باختراع غيرية أخرى، فيقول: الموالد غير الاحتفالات، فيشرع الأول دون الثاني!!

مع أن مدار الحكم على المعنى، فما دام أن المعنى واحد فالحكم واحد، والاشتراك في المعنى يجعل الحكم واحداً. من باب مراعاة المقاصد ومآلات الأمور، وأن الغاية منهما واحدة.

ونحن نسأل معالي الدكتور: هل شرع الرسول -صلى الله عليه وسلم- هذا الاحتفال لأمته أو هو شي محدث بعده؟

وقد قال -صلى الله عليه وسلم-: (من أحدث من أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد) رواه مسلم.

وهل فعله صحابته وخلفاؤه الراشدون الذين لا يساويهم أحد في محبته -صلى الله عليه وسلم- هل كانوا مقصرين في محبته حين لم يفعلوه؟!

لا، بل إنهم لم يفعلوه، لأنه بدعة، وقد نهى -صلى الله عليه وسلم- عن البدع، وفعل البدع معصية له -صلى الله عليه وسلم- يتناقض مع محبته؛ لأن محبته تقتضي متابعته وترك ما نهى عنه.

فيا معالي الدكتور! كيف نعلم أولادنا محبة رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، ثم ندعوهم لمخالفته بفعل البدع؟! أليس هذا تناقضاً؟!

ليتك قلت: علموهم متابعة رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وانهوهم عن مخالفته، وألزموهم بطاعته؛ كما قال -صلى الله عليه وسلم-: (مروا أولادكم بالصلاة لسبع، واضربوهم عليها لعشر، وفرقوا بينهم في المضاجع). رواه أبو داود.

والاحتفال بيوم مولده استدلالاً بحديث أبي قتادة -رضي الله عنه- قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عن صيام يوم الاثنين: (ذاك يوم ولدت فيه) رواه مسلم.

يلزم الاحتفال بكل اثنين من كل أسبوع، وليس مرة واحدة في السنة حسب زعمهم!

لأن الحديث مخصوص بيوم الاثنين فروعي فيه جانب اليوم لا التاريخ، وأصحاب المولد: يتناقضون فإن وافق يوم الاثنين استدلوا بهذا الحديث، وإن لم يوافق قالوا يوم ولادته هو اليوم الثاني عشر.

أ.د. أحمد بن عبدالله الباتلي



 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

رأي الجزيرة

صفحات العدد