Al Jazirah NewsPaper Thursday  24/04/2008 G Issue 12992
الخميس 18 ربيع الثاني 1429   العدد  12992
أيها الإنسان.. من تكون؟!
محمد بن حمد الدبيان - باريس

من هو الإنسان؟ قد يكون الإجابة على هذا التساؤل بمفهوم بسيط، هو الكائن المخلوق، المكرم من الخالق جلت عظمة، المميز عن كل الخلائق، حيث خلق الله الخلائق كلها بمختلف ألوانها وأشكالها وأحجامها وسلوكياتها وفصائلها وتصنيفها، خلقهم رب العالمين، ونظم لهم أسلوب الحياة بسياقات مختلفة تتناسب مع خصال وطبيعة المخلوق نفسه.

فكان أعظم تلك المخلوقات هو الإنسان بما حباه الله من مميزات ينفرد بها عن سائر المخلوقات، وأعظم تلك المميزات العقل، وقد ميز الإنسان بالعقل، لكي يفكر بتدبير سائر أمور حياته حسب قدرته العقلية، ومكتسباته الفكرية، كما أن الإنسان مطلوب منه أن يتفكر بعظمة الخالق - جل جلاله- وتكوينه لهذا الكون العظيم العجيب الذي يحتوي على كل المتوافقات والمتضادات.

وعندما أتحدث عن الإنسان بشمولية كاملة قد يحتاج الأمر إلى تأليف كتب في كافة جوانبه، لكن هي خاطرة عجبت لظهورها، ووجدت من المناسب أن أقف عندها، عسى أن أجد من يوافقني عليها، وأن يتنبه من اعتادها سلوكاً له، والقضية تنحصر في التغيرات السلوكية للإنسان أثناء فترات عمره، والتسلسل الزمني له، إن طال أجله، وهذه التغيرات قد نجدها في بعض المجتمعات بصورة واضحة، ولا نجدها في البعض الآخر بهذه النسبة العالية من الوضوح، لكنها قد تكون سنة من سنن الحياة، إلا أنها من صنيع الإنسان نفسه، مع العلم أن مبادئ القيم العالية، والأخلاق الحميدة، لا تتوافق مع هذا المنحى.

فنجد أن الإنسان قد تكوّن وترعرع ونما في بطن أمه ثم خرج إلى الدنيا عارياً مستنكراً الجو الجديد، باكياً على تركه مكان إقامته السابقة لما فيها من حب وحنان وأمان وتغذية سليمة، باكياً،والآخرون من حوله فرحون بوصوله بسلامة، ثم ما يلبث أن يعيش هذا الإنسان على الأرض مثله مثل الآخرين الذين سبقوه وخرجوا إلى الدنيا، وفارقوها بعد حين، فيعيش في كنف المربين والحاضنين له مع الفارق بينه وبين الآخرين في درجة المستوى المعيشي، لكنه يظل إنساناً مهما كانت الظروف المحيطة به.

أجد أن هذا الإنسان كبر وذهب إلى المدرسة، وأخذ نصيبه من المعرفة، ودخل إلى دهاليز العمل والسعي وراء الرزق، وتحقيق الغايات والطموحات الدنيوية، وما يتحقق منها، فإن كان من أهل النصيب والحظ الوافر، فإنه سيجد نفسه وقد تقلد أعلى المناصب في مجتمعه، وأصبح له شأن وكلمة، فنجد أن هذا الإنسان المسكين بدأ يتغير ويتحول من البساطة في التعامل إلى التكلف، ومن التواضع مع الآخر إلى الكبرياء، ومن التسامح في حل قضايا الآخرين إلى التشدد والتعصب في حل القضايا على بساطتها، حتى ابتسامته تتغير، فتكون من ابتسامة المحبة إلى الابتسامة الصفراوية، ومن ضحكة الرضى والتسامح إلى ضحكة لها نغمة التعالي والعظمة.

هذا المشهد الغريب، والسلوك المصطنع المستغرب الذي يأخذه الإنسان ويتقمصه كشخصية اعتبارية في المجتمع لا بد أن تصنع لنفسها منحى مخالفا عن المألوف، وكأنه مخلوق نادر فريد، خلق بأسلوب مختلف عن باقي البشر، فله تركيبة تختلف عن سائر الخلق من بني الشر، وكأنه قادم من كوكب آخر، أو أن تكوين حمضه النووي يختلف عن الحمض النووي لسائر الناس.

وبهذه المناسبة فقد وقع في يدي كتاب للمؤلفين مارك فيكتور هانس، وروبرت ألن، بعنوان (مليونير في دقيقة واحدة) ووجدت فيه توزيعة جميلة في جدول مبدع للحمض النووي للإنسان تحت زاوية (الحمض النووي للمليونير المتنور)، حيث وزع الحمض إلى جزأين: حمض نووي إيجابي، وآخر سلبي، وجعل الخواص والصفات السلوكية لكلا الجزأين، لكن الكاتب قد يكون فاته أن يذكر أن جبروت الإنسان وقوة بأسه استطاع أن يخلط بين الصفات، فتجده في نواحٍ أخذ من الصفات الإيجابية، وفي مواطن أخرى أخذ من الجانب السلبي، أو بسبب ظروف وقتية معينة كالمنصب والجاه والثروة، تجعل الإنسان يتقلب بين الجزأين حسب الرغبة، وحسب صفة ومنزلة الآخر الذي أمامه.

لهذا لا بد للإنسان أن يعرف حقيقة ثابتة لا تتغير، وليس لها بدائل، ولا تعتمد هنا على قدرات الإنسان العقلية، أو إمكانياته المادية، وليس لها علاقة بمكانته الاجتماعية مهما علت، فمثلما ولد عارياً قبل زمن، وفي لحظتها لُفَّ بقطعة من القماش العادي للوهلة الأولى، فهو في آخر مطاف الحياة سيغادر الدنيا عارياً وسيلف بقطعة من القماش السابق نفسه، إلا أنها قد تختلف قطعة القماش هذه فقط، من حيث كبر المساحة عن سابقتها ليعود من حيث أتى، فالإنسان خلق من طين، وسيعود إلى الطين أو التراب، وهما وجهان لشيء واحد لا يختلفان.

إذن.. لماذا التعالي والكبر والغطرسة، وإهمال الناس، وعدم احترام آدمية الإنسان الآخر، والجحود لكل معروف يسدل، أو عمل يتقن، وعدم الرغبة في المواجه في بعض الأحيان، أو النظرة القاصرة نحو الآخر وتجاهله، والهمز واللمز غير المبرر، بما يكره الآخر، فمهما كانت الظروف فلكل بداية نهاية، فمثل ما بدأ الإنسان مشوار حياته، فسينتهي هذا المشوار أدراج الرياح، وإن كان هو في ذاكرة التاريخ، فهو في مهب حكمة النسيان، وذلك بأن الذي غره وجعل التغيرات تسيطر على سلوكياته وتصرفاته هو غطرسة المنصب الذي سحب منه بكل هدوء، وذلك أثناء حصوله على التقاعد، فيجد أن الناس الذين كانوا حوله وكان يأمر وينهى ويبتسم ويكشر في وجوههم، قد ذهبوا عنه، وتفرقوا من حوله، وتركوه يعيش وحده، فقط يعاني من وحدته.

الغريب في الأمر أن الكثير يعتقد أن المنصب حتى لو كان منصباً بسيطاً، فهو سمة للإنسان، ولا يعرف إلا به، هذا منظور خاطئ، فهؤلاء لن ينظروا لهذا الإنسان من منطلق إنسانيته، وصفاته وشخصيته سواء كانت هذه الصفات جيدة أو عليها ما عليها، بل النظرة للإنسان من خلال وظيفته؛ إن هي كبيرة أو صغيرة، حيث يرتبط هذا الإنسان برابطة المنصب، لا بالرابطة الإنسانية، برابطة الثروة، لا برابطة الكفاف في الرزق والعيش بسعادة، برابطة الجاه والتعالي لا برابطة التواضع والبساطة، وهذه هي صفات ارتبط بها الإنسان مع التغيرات، ولم يعِ ويهتم بالثوابت التي هي أساس الفطرة الجميلة التي خلق الله الناس عليها.

فألمح في الأيام الأخيرة أن هذه الظاهرة بدأت تتفشى في المجتمع السعودي الذي عرف عنه إيمانه الكامل بالله، ولديه قاعدة جيدة من تعاليم سماحة الدين الحنيف التي تحث على التواضع والتسامح والتآخي وحب الخير للآخر، والوقوف معه إذا لزم الأمر، كما أن للمجتمع السعودي عادات وتقاليد عربية أصيلة جميلة منحاها النخوة والكرم والحلم، لكن قد يكون السبب هو (مبدأ البرستيج) كما يعتقد البعض أنه مبدأ مصاحب للوظيفة، البرستيج الذي يتقمصه الإنسان صاحب المنصب أو الثروة أو الجاه، وهو لا يعي أسلوب التعامل مع هذا المبدأ، ولا يدرك أبعاده ومضاره، ومنافعه إن كان هناك منافع تذكر، أسال الله الكريم أن يهدي الإنسان السعودي العربي المسلم المسكين الذي تغير مع العلو في المنصب، وغرته تجارته، فقد لبس ثوباً ليس له، ولا من أخلاقياته كمسلم، إذن ليعد الإنسان السعودي إلى إنسانيته الطيبة وأن يستثمرها في التعامل مع الآخر بكل صفاتها الجميلة، وأن يستعين بما لديه من حصيلة وافية عن منهج المصطفى سيد البشرية محمد بن عبد الله (صلى الله عليه وسلم) وما بها من حسن الأخلاق والخصال الحميدة، حيث كان الرسول المرسل، والمعلم الملهم، والصادق الصدوق في العمل والتعامل، القريب من أصحابه بكل تواضع وسماحة، المطبق لمبادئ المساواة بين من حوله.

إذن على الإنسان السعودي أن يجعل دائماً حمضه النووي في الجزء الإيجابي لما به من خصال راقية، ستساعده في تحقيق طموحاته وأحلامه مع الأيام، دون الضرورة إلى التغير في سلوكياته وتصرفاته نحو الآخر، وأن يمثل دوراً ليس له به صلة.




 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

رأي الجزيرة

صفحات العدد