بينما ينتظر ديمتري ميدفيديف تنصيبه رئيساً لروسيا في السابع من مايو-أيار، يعكف الغرب على دراسة كل كلمة يتفوه بها، متلهفاً إلى أدنى إشارة قد توحي بأن رئيس روسيا الجديد سوف يكون أكثر اعتدالاً وتعقلاً وأسلس قياداً من فلاديمير بوتن، الرجل الذي كان وراء انتخابه.
إذا ما توخينا الحرص والدقة في انتقاء الأدلة فلربما يكون بوسعنا أن نبني حجة شبه معقولة لهؤلاء المتلهفين اليائسين إلى الحد الذي يجعلهم يصدقون مثل هذه الحجج. كان ميدفيديف في العشرينات من عمره حين تفكك الاتحاد السوفييتي، وهو لهذا السبب أقل تلوثاً بالعقلية السوفييتية. وهو يتحدث اللغة الإنجليزية بطلاقة ولا ينتمي إلى خلفية استخباراتية، كما كان يتعامل مع الغرب طيلة عقد من الزمان تقريباً باعتباره الشخصية الرائدة في صناعة الطاقة في روسيا.
فضلاً عن ذلك فهو محام بالتدريب - والمفترض أن يكون هذا قد غرس فيه بعض الاحترام لحكم القانون على الأقل - كما كانت تصريحاته والمقابلات التي أجريت معه حتى الآن معتدلة إلى حد كبير، بل وربما كانت تدل على قدر من الليبرالية.
ولكن مما يدعو للأسف أن الكلمات لا تعني أي شيء تقريباً في مثل هذا البلد شديد التعقيد. الحقيقة أن ميدفيديف سوف يكون الزعيم الروسي الأكثر مرونة منذ القيصر نيكولاس الثاني. ورغم أن الشخصية الليبرالية لدى ميدفيديف محل نقاش، إلا أن القوى المستنفرة ضده تتألف بلا شك من: عشيرة سيشِن، وعشيرة تشيركيسوف، والمنتمين إلى الأجهزة العسكرية والاستخباراتية القديمة، ومنافسيه الذين سبقهم إلى المنصب الأعلى في البلاد، وبالطبع سلفه ومعلمه بوتن.
من عجيب المفارقات هنا أن ميدفيديف يكاد لا يملك أي مساحة للمناورة، رغم قيادته لواحدة من أقوى الرئاسات على مستوى العالم. فقد حصل على شعبيته كهبة أو منحة، ولم يكتسبها، أي أنها قد تنتزع منه بنفس السهولة التي حصل بها عليها. ورغم كل حديثه شبه المشجع إلا أن ميدفيديف يشدد على الاستمرارية وليس التغيير، وتحمل إشاراته إلى رئاسة بوتن قدراً كبيراً من التبجيل والامتثال.
ولقد وقع الاختيار عليه بفضل ولائه الكامل. والحقيقة أنه لمن الصعب أن نتخيل بوتن وهو يلعب دوراً ثانوياً تحت قيادة الرجل الذي ظل تابعاً له طيلة ثمانية عشر عاماً.
فضلاً عن ذلك فمن المرجح أن تكون حركة ميدفيديف، الذي تولى رئاسة شركة غازبروم العملاقة المملوكة للدولة طيلة الأعوام الستة الماضية، مقيدة على نحو أكثر إحراجاً.
فحين ننظر إلى سجل غازبروم غير الشفاف أثناء رئاسة ميدفيديف لها فلسوف ندرك أنه سوف يكون عُرضة لمحاولات الابتزاز الساعية إلى حمله على تبني سياسة الطاقة التي تتوافق مع ضمان سلامة مصالح الآخرين. أما غازبروم ذاتها فلسوف تستمر في العمل باعتبارها لاعباً غير تجاري.
ورغم المشاكل الخطيرة المرتبطة بالاستخراج والإنتاج والآبار والحقول الجافة (بدأ الإنتاج يشهد انحداراً في ثلاثة من أكبر أربعة حقول في روسيا)، إلا أن الميل إلى استغلال مثل هذه الموارد كسلاح إستراتيجي يؤدي في النهاية إلى دعم الاقتصاد.
ومع استمرار ارتفاع أسعار الموارد الخام في دعم وتغذية الرغبة في العودة المزعومة إلى فرض النفوذ الدولي القديم، فلسوف يستمر الكرملين في استغلال إستراتيجيته الناجحة في تأليب الدول الأوروبية على بعضها البعض، مستعيناً بافتقار الاتحاد الأوروبي إلى إستراتيجية متماسكة في التعامل مع روسيا وسياسة مشتركة في إدارة شئون الطاقة.
ربما يكون في المفهوم الخاطئ الواسع الانتشار، والذي يدور حول اعتماد أوروبا الكامل على النفط والغاز الروسيين، تفسيراً لمحاولات استرضائها المتكررة من جانب أوروبا. إلا أن روسيا تحتاج إلى العائدات بقدر ما تحتاج أوروبا إلى الطاقة. وأغلب خطوط الأنابيب في المنطقة تتجه نحو الغرب.
وبينما تشكل صادرات روسيا من الغاز إلى أوروبا 90% من إجمالي صادرتها من الغاز، فإن واردات أوروبا من الغاز الروسي تشكل 60% فقط من وارداتها منه. والآن تسعى أوروبا إلى تنويع مصادر الإمداد، بينما تسعى روسيا إلى تنويع منافذ التوزيع، رغم عدم نجاح الطرفين إلى حد كبير في تحقيق هاتين الغايتين.
ربما كان الجانب الأكثر إزعاجاً في هذا أن ميدفيديف قد يتشرب عادات بوتن السيئة فقط وليس عاداته الطيبة. إن (البوتينيزم) تنبني على الحاجة إلى وجود عدو على نحو دائم، ومنذ العام 2003 على الأقل كان ذلك العدو متمثلاً في الغرب. وليس من المرجح أن يحاول ميدفيديف الانحراف عن هذا المسار. ولكن ربما كان بوسعه أن يعمل على تخفيف بعض المواقف الأكثر حدة في السياسة التي انتهجها بوتن في التعامل مع الطاقة - بتقديم بعض التنازلات هنا، وعقد صفقات جديدة هناك - إلا أن هذا لن يتم إلا عند الحواشي والحواف فقط. وإذا ما حدث ذلك فلابد وأن يكون الغرب أكثر يقظة وانتباهاً.
فقد كان بوتن ذئباً، إلا أنه على الأقل كان ناجحاً في ارتداء الملابس المناسبة لهذا الدور - على العكس من ميدفيديف. وربما يعجز المستثمرون الأجانب وساسة الاتحاد الأوروبي عن اختراق قناع ميدفيديف المعتدل - أو ربما يختاروا ألا يبصروا ما وراء ذلك القناع.
لا جدوى من الشكوى بشأن المشاغبات الإستراتيجية الروسية ما دمنا لا نتبع خطاً إستراتيجياً ثابتاً.
ولا يستطيع الغرب أن يغير من سلوك روسيا بالإقناع، لذا فيتعين عليه أن يلجأ إلى مواطن قوته: فيعمل على سبيل المثال على تحويل خط أنابيب نابوكو، الذي يدور حول روسيا، إلى حقيقة واقعة، وأن يدرج الطاقة ضمن السياسة الخارجية والأمنية المشتركة لأوروبا، وأن ينوع مصادر الإمداد، وأن يكون أكثر دقة في غربلة الشركات الساعية إلى تشغيل رؤوس أموالها في بورصة لندن. إن أمن طاقتنا بين أيدينا نحن، وليس بين يدي روسيا.
* جيمس نيكسي - مدير البرنامج الروسي الأوراسي لدى (دار تشاتهام)، المركز البحثي الفكري الذي يتخذ من لندن مقراً له. حقوق النشر: بروجيكت سنديكيت، 2008. - خاص الجزيرة