Al Jazirah NewsPaper Tuesday  20/05/2008 G Issue 13018
الثلاثاء 15 جمادى الأول 1429   العدد  13018
الفلسفة وعلم الكلام في فكر ابن تيمية 2-4
عبد الله بن محمد السعوي

إن التأمل القرائي في النص التيمي عندما يتناول بالدحض آراء الفلاسفة كقولهم مثلاً ب(قدم العالم)، وأن العالم لم يزل موجوداً مع المحرك الأول غير متأخر عنه بالزمان، وكقولهم ب(اقتران المعلول بالعلة) وكآليتهم بإثبات (واجب الوجود) وقولهم في (المعاد الجسماني).

التأمل في المنهج التيمي، والتفنيد النقدي المشتبك مع هذه القضايا يمدنا بنتيجة راسخة فحواها أنه يتعاطى عبر منهجية موضوعية قوامها أولاً: الاعتماد الكلي على النصين القرآني والحديثي؛ هذه سمة بارزة في منهجه، وهو كثيراً ما يؤكد وفي (درء التعارض) أن (القرآن قد دل على جميع المعاني التي تنازع الناس فيها دقيقها وجليلها)، ويؤكد أيضاً أن الرسول (أعلم الخلق بالحقائق الخبرية والطلبية، وأحب الخلق للتعليم والهداية والإفادة، وأقدر الخلق على البيان والعبارة، ويمتنع أن يكون من هو دونه أفاد خواص معرفة الحقائق أعظم مما أفادها الرسول لخواصه، فامتنع أن يكون عند أحد من الطوائف من هو أعلم بالحقائق وأبين لها منه) انظر كتاب (نقض المنطق) ص 117 ويقول رحمه الله: (فقد وجب على كل مسلم تصديقه فيما أخبر به عن الله من أسماء الله وصفاته مما جاء في القرآن وفي السنة الثابتة عنه، كما كان عليه السابقون الأولون من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان) انظر (القاعدة المراكشية) ص 28 ويقول أيضاً: (والمقصود هنا أن يؤخذ من الرسول العلوم الإلهية الدينية سمعياً وعقلياً ويجعل ما جاء به هو الأصول لدلالة الأدلة اليقينية البرهانية على أنه ما قاله حق جملةً وتفصيلاً) انظر (مجموعة الرسائل الكبرى) 1-109 .

ثانياً: يعتمد ابن تيمية في منهجه على الاستدلال العقلي فيما يستطيع العقل الإحاطة به. إنه لا يهمش العقل ولا يزدريه بل يتوسله ويعمله ضمن إطاره المحدد له؛ فالعقل كوسيلة معرفية يدرك الأمور الغيبية على سبيل التصور فقط، ولا يتجاوز ذلك؛ فهذا مما يعز عليه مرامه، ولو كان العقل يستقل بمعرفة كل الأشياء، لما كان ثمة باعث على إرسال الرسل، وإنزال الوحي، المنقول يقدم على المعقول في رأي ابن تيمية فهو يرى (أن الواجب أن يجعل ما قاله الله ورسوله هو الأصل، ويُتدبر معناه، ويعقل، ويعرف برهانه ودليله، إما العقلي، وإما الخبري والسمعي، ويعرف دلالة القرآن على هذا وهذا، وتجعل أقوال الناس التي قد توافقه وتخالفه متشابهة جملة، فيقال لأصحاب الألفاظ، يحتمل كذا وكذا، ويحتمل كذا وكذا، فإن أرادوا بها ما يوافق خبر الرسول قبل، وإن أرادوا بها ما يخالفه رد، وهذا مثل لفظ المركب والجسم.. والجوهر فإن هذه الألفاظ لا توجد في الكتاب والسنة بالمعنى الذي يريده أهل الاصطلاح، بل ولا في اللغة أيضاً) انظر (مجموع الفتاوى) 13-146. ابن تيمية يرى أن العقل الصريح لا بدَّ أن ينسجم والنقل الصحيح، ويؤكد أن (كثيراً مما دل عليه السمع يعلم بالعقل) انظر (التدمرية) ص 93 وإن وجد ثمة خلاف بين العقل الصريح والنقل الصحيح فإن مرده إلى أحد أمرين: إما أن يكون العقل غير صريح؛ أي أنه ينطوي على شبهة أو تتلبسه شهوة، أو أن يكون النقل (الحديث) لم يثبت عن الرسول صلى الله عليه وسلم.

ثالثاً: لديه عناية شديدة بضبط المصطلحات، وتعيين أبعادها الدلالية، ويعتقد أن جملة كبيرة من التباين المتموقع بين السلف، هو تباين تنوع لا تباين تضاد،؛ فهو اختلاف لفظي، كما أنه يؤكد على أن المتأخرين يتوسلون مصطلحات محدثة فيها الحق والباطل ثم ينفونها ليتوصلوا بها إلى نفي معنى صحيح، يقول رحمه الله: (وأما الألفاظ تنازع فيها من ابتدعها من المتأخرين مثل لفظ الجوهر والمتحيز والجهة ونحو ذلك؛ فلا تطلق نفياًَ ولا إثباتاً حتى ينظر في مقصود قائلها فإن كان قد أراد بالنفي والاثبات معنى صحيحاً موافقاً لما أخبر به الرسول صوب المعنى الذي قصده بلفظه، ولكن ينبغي أن يعبر عنه بألفاظ النصوص لا يعدل إلى هذه الألفاظ المبتدعة المجملة إلا عند الحاجة مع قرائن تبين المراد بها).

ثانياً: الإنصاف ضابط منهجي انتفاؤه يورث بالضرورة قراءة متهافتة. هذه السمة هي الأكثر تجلياً في المنهج التيمي؛ مناكفة المناوئين، ومناهضة الخصوم، تقود غالباً إلى تجاهل مزاياهم، وتحرض العقل على البحث عن سقطاتهم. ومع أن ابن تيمية أحياناً يكون في منتهى الحدة اللفظية إلا أن هذا لم يمنعه من الإنصاف في أعلى مستوياته؛ فيقر لخصومه بما معهم من الحق كما في وصفه لابن سينا بأنه (أفضل متأخري الفلاسفة) انظر (الرد على المنطقيين) 396 وفي معرض حديثه عن (الرازي) يؤكد على أنه في مؤلفاته لا يتقصد المنهجية الظاهرة البطلان رغم تناقضه الصارخ في كتاباته الذي حدا بكثير من الناس إلى أن (يساء به الظن وهو أنه يتعمد الكلام الباطل وليس كذلك بل تكلم. بحسب مبلغه من العلم والنظر والبحث في كل مقام بما يظهر له) انظر (الفتاوي) 5-561 ولما تحدث عن (النصير الطوسي) وجلى ما التاث به من سلوكيات من أبرزها تواطؤه مع (هولاكو) ضد أهل الإسلام بين أنه في المراحل الزمنية الأخيرة من حياته كان محافظاً على تأدية المشاعر الدينية مع انهماكه في قراءة الآثار العلمية في التفسير والفقه ونحوها، وذكر أنه ربما كان له أوبة عما اجترحه قبلا. انظر كتاب (منهاج السنة) 3-448، أما في موقفه من ابن رشد فقد أكد على أن درجة مصداقيته في النقل عن الفلاسفة أعلى من مصداقية ابن سينا، انظر (الدرء) 6-245 أما (أبو البركات) صاحب (المعتبر) فقد نعته ابن تيمية بموضوعية نادرة من نوعها، وأكد على أنه أدنى الفلاسفة المنتسبين إلى الإسلام إلى الحقيقة وأكثرهم مجافاة للتعصب. انظر (الصفدية) 1-45، ومن تجليات إنصاف ابن تيمية تفضيله لأرباب علم الكلام على الفلاسفة في جانب الإلهيات. انظر (الفتاوي) 17-334، 335 وفضل الأشاعرة على غيرهم من المعتزلة والجهمية؛ فهو يقول عن الأشاعرة بعد ذكر مجمل عقائدهم: (فكان هؤلاء بينهم وبين أهل الوراثة النبوية قدر مشترك بما سلكوه من الطرق الصابئة في أمر الخالق وأسمائه وصفاته، فصار في مذهبهم في الرسالة تركيب من الوراثتين، لبسوا حق ورثة الأنبياء بباطل ورثة اتباع الصابئة كما كان في مذهب أهل الكلام المحض المبتدع - كالمعتزلة - تركيب ولبس بين الإثارة النبوية والإثارة الصابئة، لكن أولئك (يقصد الأشاعرة) أشد اتباعاً للإثارة النبوية وأقرب إلى مذهب أهل السنة من المعتزلة ونحوهم من وجوه كثيرة) (مجموع الفتاوى) 12-32- 33 بل حتى الفلاسفة لم يجعلهم على مستوى واحد ولم يصدر حكماً يتيماً ينتظمهم كافة، وإنما تعاطى معهم بأحكام متباينة ففاوت بينهم باعتبار أن الفلسفة منظومات شتى تختلف درجة موضوعيتها من منظومة إلى أخرى بحسب البيئات التي نمت فيها والعلوم التي استفادوها من الأنبياء فهم - أي الفلاسفة - (يقل جهلهم ويعظم علمهم بحسب ما اتفق لهم من الأسباب التي تصحح عقولهم وأنظارهم فكل من كان بالنبوات أعلم وإليها أقرب كان عقله ونظره أصح) انظر (درء التعارض) 9-276 وهو أيضاً يذكر بعض ما يتميز به المعتزلة، ويرى أنهم (خير من الرافضة والخوارج، فإن المعتزلة تقر بخلافة الخلفاء الأربعة... ويعظمون الذنوب؛ فهم يتحرون الصدق كالخوارج، لا يختلقون الكذب كالرافضة) انظر (الفتاوى) 13-97- 98 ويرى أيضاً أنه ليس كل ما أنكره بعض الناس على الشيعة يكون باطلاً (بل من أقوالهم، أقوال خالفهم فيها بعض أهل السنة ووافقهم بعض، والصواب مع من وافقهم، ولكن ليس لهم مسألة انفردوا بها أصابوا فيها) انظر (منهاج السنة) 1-27 إن الإنصاف عند ابن تيمية، لو تأملنا، لألفيناه ينطلق من ركيزتين أساسيتين، أحدهما: أن نقده ينصب على الأفكار، لا على الأشخاص؛ فهو يحكم على الفكرة، ويجلي ما تحتويه من خطل، ويفند متضمناتها؛ فإذا ما انتهى به الحديث إلى الشخص ذاته، معتنق الفكرة، ومتبني إذاعتها، فإنه يتعاطى معه على نحو آخر مبني على أن ثمة مصداقية في نواياه، وأنه يروم خدمة الإسلام، وأنه أتى من قبل جهله، أو يوضح أنه تراجع وآب إلى الطريق السوي في آخر عمره.

الثاني: أن لهؤلاء الأشخاص - وخصوصاً إذا كانوا من المتكلمين - أعمالاً إيجابية يجب وضعها في عين الاعتبار، والإشادة بها، ولفت الانتباه إليها، وذلك ما سلكه ابن تيمية مع شيوخ الأشاعرة على سبيل المثال.

ثالثاً: أنه في معرض مناقشته للفكر الفلسفي يجمع بين عرض الرؤية الفلسفية ودحضها؛ فهو يعرض الفكرة المشبوهة ويسهب القول في تجليتها، ويفصل في أدق مفرداتها، ويجلي حال الخصوم، وطبيعة متبنياتهم، ومن ثم يباشر تقويضها من أصولها الجذرية، ويبين مدى انحسار الفاعلية المعرفية، ويلفت النظر إلى تمظهرات افتقارها إلى اتساق المنطق الداخلي.

وفي هذا المساق يثرب على المتكلمين آلياتهم في التجاذب الفكري مع الفلاسفة حيث إنهم يوردون الفكرة الفلسفية في قالب جزل أخاذ، يغازل اللب، ويغري الوجدان، ويردون عليها بأدلة واهية لا تفند الفكرة، وتدك معالمها، بقدر ما تسوقها وتعمل على جمهرة ممارستها، مما كان له أكبر الأثر في استطالة الفلاسفة عليهم؛ لأنهم اعتمدوا قالباً أسلوبياً ما إن يطال مناظرة إلا ويفرغها من غايتها المقاصدية وهذا المعنى أومأ إليه ابن تيمية وذكر أن (قوماً أرادوا بزعمهم نصر الشرع بعقولهم الناقصة وأقيستهم الفاسدة فكان ما فعلوه مما جرأ الملحدين أعداء الدين عليه فلا للإسلام نصروا ولا لأعدائه كسروا) انظر كتاب (الرد على المنطقيين) 272 .

رابعاً: دائماً ما يلجأ ابن تيمية، إبان تقويضه لأفكار الخصوم باعتماد رد بعضهم على بعض وتوظيف تناقضهم لنقض مبادئهم؛ ولذا فهو يؤكد على (أن المناظرة تارة تكون بين الحق والباطل، وتارة بين القولين الباطلين لتبيين بطلانهما أو بطلان أحدهما، أو كون أحدهما أشد بطلاناً من الآخر، فإن هذا ينتفع به كثيراً في أقوال أهل الكلام والفلسفة، وأمثالهم ممن يقول أحدهم القول الفاسد، ينكر على منازعه ما هو أقرب منه إلى الصواب فيبين أن قول منازعه أحق بالصحة إن كان قوله صحيحاً وأن قوله أحق بالفساد، وإن كان قول منازعه فاسداً لتنقطع بذلك حجة الباطل فإن هذا أمر مهم) انظر (درء التعارض) 4-206 وبعد ذكره للسجال الحاد، بين المعتزلة والأشعرية، حول كلام الله وأفعال العباد، قال: (وهذا أعظم ما يستفاد من أقوال المختلفين الذين أقوالهم باطلة، فإنه يستفاد من قول كل طائفة بيان فساد قول الطائفة الأخرى، فيعرف الطالب فساد تلك الأقوال، ويكون ذلك داعياً له إلى طلب الحق) انظر (الفتاوى) 2-314 .

يتبع



 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

رأي الجزيرة

صفحات العدد