Al Jazirah NewsPaper Tuesday  03/06/2008 G Issue 13032
الثلاثاء 29 جمادى الأول 1429   العدد  13032

هل بلغت أشدّك بعد؟
د. عبدالله بن سعد العبيد

 

كنت قد فرغت لتوي من هبوط منحنى عطاء أجهزة الجسم التي يجزم علماء الطب البشري بأنها السن التي تبدأ معها تلك الأجهزة بانحدار قواها، كنت بحق ممن يمنون النفس ببلوغ أشدي عمرا، كنت أزهو برغبة الطفل الجامح والشاب الطامح وأنا أقترب رويدا من بلوغها،

فكيف لشاب عشريني يتمتع بحسد العلماء وكيد النساء وجبروت السلطان وجشع التجار وحكمة العقلاء أن يكون عشرينيا، كنت أهبط منحدرا جبليا حادا لأصل طريق الحلم ومنجاة الدرب. لم يغب عن بالي قط السبب في تلك الرغبة الخاطئة.

إلا أن كلمة أربعين لم تستوقفني قط، كما أراها تستوقفني الآن، لم يترنم لها مسمعي كثيرا كما هي الحال وأنا أقترب منها، لقد كانت تمر علي مثل مداعبة لطيفة ابتسم لها لفترة تطول أو تقصر، آملا حدوثها وقرب وقوعها، ثم أنسى وأتفرغ لما يشغل الشاب ونشاطه وهمته ثم ينتهي كل شيء.

الأربعون؛ هاجس جميل بدأ يقرع سمعي ويخفق له قلبي منذ سنوات، شعور هز له وجداني وعواطفي، حلم لم أستطع تزوير الحقائق لبلوغه، كلمة كثيرا ما استنفرت قلمي واستدعت الكثير الكثير من خواطري حول ما مضى فأصبح طيفا وذكريات، وحول ما سيأتي وهو ما يزال جنينا مخبوءا في رحم الغيب الذي لا علم لي به، ما كنت أدري قبل اليوم أن الأربعين تشكل هذا المنعطف الكبير في حياتي. لماذا؟ لست أدري.

لعلي كنت أظن أني لست بالغها، وأني سوف أظل متمتعا بريعان الشباب الذي دأبت على رغبتي بإنهائه حتى يتحقق الحلم، وربما لأنني كنت أرى المسافة عليها طويلة، وربما لأنني كنت عاجزا عن التأمل والمقارنة بين صفحات ما مضى وصفحات ما هو آت، يشغلني عنفوان الشباب، وآلام الطريق الصعبة الشائكة التي كتب علي أن أسلكها وأمشي فيها، وقد مشيتها بشباب القوة ومستقبل الأمل متجاوزا غابة أسطورية صنعها فقر الحال وضنك العيش حتى باتت تشابه الغابات المليئة بكل أنواع الأفاعي السامة، والوحوش الكاسرة، والثعالب الماكرة، والأهوال والمفاجآت.

وحين شعوري بالأربعين تقرع بابي لتدخل علي غدا أو بعد غد، سواء أذنت لها أم لم آذن، كانت هناك أحاسيس متنوعة متباينة أخذت تنتابني وتملأ علي أقطار نفسي، إنها أحاسيس تتراوح بين الانقباض والحنين والتوق والندم، والأمل والتوجس، ورأيتني من بعد ذلك كله مسوقا لأن أفق عند هذا المنعطف الكبير وقفة وداع للماضي، وتفكر وتدبر في المستقبل، في نوع من مراجعة الحساب. نظرت إلى الماضي وعرضت بين عيني أيامه ولياليه، أسابيعه وشهوره وسنيه وقد أطلت سحب الأربعين فهي مجرد أيام وتمطر وتسيل أوديتها أو تهفو سموم رياحها، فوجدت ذلك كله قد مضى وكأنه اللمحة الخاطفة والومضة البارقة، ووجدت أن ما حدث لي منذ ثلاثين سنة منذ كنت أتمنى حدوثه، كأنما حدث البارحة أو يحدث الآن، ووجدت أن العمر غفلة بالفعل، وأنه كالطيف أو المنام.

ليس هناك من فاصل حجري أو جدار صخري شاهق عالٍ يفصل ما بين الأزمنة، بين الثلاثينيات والأربعينيات، إلا أن هناك الكثير من التباين والتضارب بينهما في المناخ النفسي. فهناك في الثلاثينيات وما قبلها نجد الاندفاع والطيش، ونجد التصدي للأحداث بكثير من الحماسة والتحدي والعنفوان وقليل من الحساب للعواقب.

وهنا على تخوم الأربعين تتنزل على الإنسان ألوان من السكينة، ويسري في عروقه وجسمه نسغ من الروية والتبصر لا عهد له بهما من قبل، لهذا تراه يستحضر عند كل عمل مهم يوشك أن يقدم عليه معظم تجاربه القديمة أو تجارب الآخرين التي سمع بها أو عاينها، ثم يجيل الفكر والنظر في عواقب الأمور كلها ومن بعد ذلك يقدم أو لا يقدم.

هناك، تغلب على الإنسان في سلوكه وتصرفاته وردود الفعل. وهنا تغلب عليه ردود الفكر، هناك عواصف الربيع الناشطة الثائرة، ونوء الصيف القائظ الفوار، وهنا سكون الطبيعة وهدأة الريح، وتضاؤل حدة القيظ متأثرا بالرطوبة والندى تنضح بهما مطالع الخريف في الأسحار. هناك تمور النفس بتيارات وصراعات عنيفة، تبحث لها عن منفرج وتسعى باستمرار لإثبات الذات وتحقيق الكينونة، واقتطاف الآمال بأسرع ما يكون، وكل ذلك يترجم عنه بانعكاسات حركية، حية، جريئة، تبدو على السطح، وهنا تخف حدة الصراعات، بثبوت الذات وتحقق الكينونة على نحو أو آخر، وتحدد المسار العام، واتضاح المعالم على طريق الممكن وغير الممكن من رغائب النفس ومطامح الذات، وكل ذلك يبدو أثره على شكل انعكاسات وانفعالات وئيدة متعلقة تعتمل في الأعماق.

مرت السنون وتجاوزت الأربعين المرغوبة وغير المرغوبة، المحسوبة التي تأملت قربها وغير المحسوبة التي تمنيت تأخرها، فوجدت نفسي أفتح كتاب الماضي في عملية عرض لصفحاته ذات اللون القاتم واستعادة لأبرز أحداثها فقد جبل الإنسان على تذكر صفحات السواد والظلام، وكل الأحداث أراها ماثلة أمامي وكأنها بنت الساعة، فماذا أجد؟ وماذا أقرأ فيها؟ إني لا أكاد أجد أو أقرأ سوى نعم الله الكثيرة وكثيراً من شحوب السواد الماثل على هيئات مختلفة كأنه سحاب خامل غير ذي حركة ينشد الحراك، إما المطر أو الغياب. لقد غابت حكمة الماضي وبراعة الشباب ولم أعد قادرا على الاختيار. لقد استشرفت الحلم ببلوغ الأربعين، وشق الطريق نحوها، فبأي دروس الماضي اتجهت صوبها؟ وبأي تجارب السنين وعبرها دنوت منها؟

الدروس والتجارب وفيرة ومتنوعة، ولعل أحقها بالذكر تجربة الاختيار، اختيار الطريق التي برغم وضوح ملامحها واتجاهاتها تأبى نفس الأربعيني أن تدرك طولها وعرضها ويحتار وتظل حيرته قائمة باحثا عن السعادة التي تمثل اللغز الذي ما زال يحير السابقين للأربعين واللاحقين لها، ويحدوهم الأمل بأن يقبضوا عليها ويحوزوا مفتاحها دون كلل أو ملل.

لقد وجدت أن السعادة ليست في مال أو حيازة أملاك، لقد وجدتها في الحب، الحب الصادق الحقيقي بكل ألوانه ومعانيه، الحب المطلق الذي يرنو إليه الإنسان عاجزا عن تحقيقه لنفسه، قد يستطيع تحقيقه لغيره، فكم من سعيد تحققت له سعادته لوجود فعل العطاء الذي يتوق له الباحث عنه، وليس كل باحث عنه واجداً له.

ماذا فعلت وقد تجاوزت السن الذهبية، وماذا وجدت فيما بحثت عنه خلال السنوات التي سبقت بلوغي وتجاوزي تلك السن، وجدت أنني مزاجي، إما لين هادئ كظوم، أنساب عذبا شفيفا كالماء. وإما صلب عنيد، ولاسيما في مواقف التحدي أو التجاوز على ما اعتبره عقيدة أو كرامة، وبعبارة أخرى أنا كالنحلة، أبذل للآخرين وفي طليعتهم الأصفياء والأحباب من رحيق مودتي وشهد وفائي كما قيل ولكنني لا أخطئ الوخز حينما أحتاج إليه، ووجدت أني دقيق الملاحظة مفرط في الحساسية، وإنه لإفراط لا أغبط عليه لكثرة ما يرهقني، ووجدت أني أذوب تحنانا وحسرة في مواقع الوداع المتكررة، أي وداع، فتفيض عيناي بدموع صامتة، إلا أنه قد يشفع لي أني أهتز طربا ونشوة في مواقف العدل والمروءات، وتترقرق لذلك في مقلتي عبرات الفرح والشوق.

قيل: مر رجل أشمط -الأشمط هو الرجل الذي يخالط سواد شعره بياضه- بامرأة عجيبة في الجمال، فقال: يا هذه إن كان لك زوج فبارك الله لك فيه، وإلا فأعلمينا، فقالت كأنك تخطبني؟ قال: نعم، فقالت: إن في عيبا، قال: وما هو؟ قالت: شيب في رأسي، فثنى عنان دابته، فقالت: على رسلك، فلا والله ما بلغت عشرين سنة ولا رأيت في رأسي شعرة بيضاء، ولكنني أحببت أن أعلمك أني أكره منك مثل ما تكره مني، فأنشد:

رأين الغواني الشيب لاح بمفرقي

فأعرضن عني بالخدود النواضر

وقال آخر:

سألتها قبلة يوما وقد نظرت

شيبي وقد كنت ذا مال وذا نعم

فأعرضت ومالت وهي قائلة

لا والذي وجد الأشياء من عدم

ما كان لي في بياض الشيب من أرب

أفي الحياة يكون القطن حشو فمي

وقال الشعبي: الشيب علة لا يعاد منها ومصيبة لا يعزى عليها.

فهل أرحب بالأربعين وأنا من تجاوزها ببضع سنوات قليلة نادبا حظي العاثر، أم أقف لها إجلالا واحتراما وأعيش أيامها باحثا عن بعض نور ربما ينحسر خلف تلك السحب العنيدة متلاشيا كعادته معاقبا إياي على فعل لم أقترفه. أم أبحث عن أربعين أخرى لعلي أجد فيها ما أبحث عنه في كنفها إلا أنني أشعر وكأنني أتعلق بأهداب خيال، خيال العيش مرة أخرى، أبحث عن الطريق إلى بوابة الانعتاق من ذلك الجو المشحون الملبد، غير المخترق بأشعة ما أبحث عنه وإن كنت ممن يراه يحاول على استحياء شديد، بت أقلب في يدي صور تنهداتي وحرقات تنفساتي، أرمق بخجل ذكريات العشرين وألوم النفس الأربعينية

لباكية.

dr.aobaid@gmail.com

 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

رأي الجزيرة

صفحات العدد