Al Jazirah NewsPaper Friday  06/06/2008 G Issue 13035
الجمعة 02 جمادىالآخرة 1429   العدد  13035

نوازع
المنذر بن عبدالرحمن
محمد بن عبد الرحمن البشر

 

المنذر ابن الأمير عبدالرحمن الأوسط سيئ الخلق في أول أمره، كثير الإصغاء إلى أقوال الوشاة، مفرط القلق مما يقال في جانبه، معاقباً على ذلك لمن يقدر على معاقبته، مكثر التشكي ممن لا يقدر عليه لوالده الأمير عبدالرحمن، فطال ذلك على الأمير، فقال لوكيل خاص به عارف بالقيام بما يكلف به: الموضع الفلاني الذي بالجبل الفلاني المنقطع عن العمران تبني فيه الآن بناء أسكّن فيه ابن المنذر، وأوصاه بالاجتهاد فيه، ففرغ منه، وعاد إليه، فقال له: تعلم المنذر إني أمرته بالانفراد فيه ولا تترك أحداً من أصحابه ولا أصحاب غيره يزوره، ولا يتكلم معه ألبتة، فإذا ضجر من ذلك وسألك عنه فقل له: هكذا أمر أبوك فتولى الثقة ذلك على ما أمره به، ولما حصل المنذر في ذلك المكان وبقي وحده، وفقد خوله ومن كان يستريح إليه، ونظر إلى ما سلبه من الملك ضجر، فقال للثقة: عسى أن يصلني غلماني وأصحابي أتأنس بهم، فقال له الثقة: إن الأمير أمر أن لا يصلك أحد. وأن تبقى وحدك لتستريح مما يرفع لك أصحابك من الوشاية، فعلم أن الأمير قصد محنته بذلك وتأديبه. فاستدعى دواة وكتب إلى أبيه: إني قد توحشت في هذا الموضع توحشاً ما عليه من مزيد، وعدمت فيه من كنت آنس إليه، وأصبحت مسلوب العز، فقيد الأمر والنهي، فإن كان ذلك عقاباً لذنب كبير ارتكبته وعلمه مولاي ولم أعلمه فإني صابر على تأديبه. ضارع إليه في عفوه وصفحه:

وإن أمير المؤمنين وفعله

لكالدهر، لا عار بما فعل الدهر

فلما وقف الأمير على رقعته، وعلم أن الأدب بلغ به حقه استدعاه فقال له: وصلت رقعتك تشكو ما أصابك من توحش الانفراد في ذلك الموضع. وترغب أن تأنس بخولك وعبيدك وأصحابك، وإن كان لك ذنب يترتب عليه أن تطول سكناك في ذلك المكان، وما فعلت ذلك عقاباً لك، وإنما رأيناك تكثر الضجر والتشكي من القال والقيل، فأردنا راحتك بأن نحجب عنك سماع كلام من يرفع لك وينم، حتى تستريح منهم، فقال له: سماع ما كنت أضجر منه أخف علي من التوحد والتوحش والتخلي مما أنا فيه من الرفاهية والأمر والنهي، فقال له: فإذ قد عرفت وتأدبت فارجع إلى ما اعتدته وعول على أن تسمع كأنك لم تسمع، وترى كأنك لم تر، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم (لو تكاشفتم ما تدافنتم)، واعلم أنك أقرب الناس إليّ وأحبهم فيّ، وبعد هذا فما يخلو صدرك في وقت من الأوقات عن إنكار علي، وسخط لما أفعله في جانبك أو جانب غيرك، ما لو أطلعني الله تعالى عليه لساءني، لكن الحمد لله الذي حفظ ما بين القلوب بستر بعضها عن بعض فيما يجول فيها، وإنك لذو همة ومطمح، ومن يكن هكذا يصبر ويغض ويحمل، ويبدل العقاب بالثواب، ويصير الأعداء من قبيل الأصحاب، ويصبر من الشخص على ما يسوء، فقد يرى منه بعد ذلكما يسر، ولقد يخف علي اليوم من قاسيت من فعله، ولو قطعتهم عضواً عضواً لما ارتكبوه مني ما شفيت فيهم غيظي، ولكن رأيت الإغضاء والاحتمال، لا سيما عند الاقتدار، أولى, ونظرت إلى جميع من حولي ممن يحسن ويسيء فوجدت القلوب متقاربة بعضها من بعض، ونظرت إلى المسيء يعود محسناً، والمحسن يعود مسيئاً وصرت أندم على من سبق له مني عقاب، ولا أندم على من سبق له مني ثواب، فالزم يا بني معالي الأمور، وإن جماعها في التغاضي، ومن لا يتغاضى لا يسلم له صاحب، ولا يقرب منه جانب، ولا ينال ما ترقى إليه همته ولا يظفر بأمله، ولا يجد معيناً حين يحتاج إليه، فقبل المنذر يده وانصرف ولم يزل يأخذ نفسه بما أوصاه والده حتى تخلق بالخلق الجميل، وبلغ ما أوصاه به أبوه، ورفع قدره.

ومن شعره في ابن عم له:

ومولى أبي إلا أذايَ وإنني

لأحلم عنه وهو بالجهل يقصد

توددته فازداد بُعداً وبغضة

وهل نافع عند الحسود التودد

وقوله:

خالف عدوك فيما

أناك فيه لينصح

فنما ينبغي أن

تنام عنه فتربح

ومن كرم نفسه أن أحد التجار أهدى له جارية بارعة الحسن، واسمها طرب، ولها صنعة في الغناء حسنة، فعندما وقع بصره على حسنها ثم أذنه على غنائها أخذت بمجامع قلبه، فقال لأحد خدامه: ما ترى أن ندفع لهذا التاجر عوضاً عن هذه الجارية التي وقعت منا أحسن موقع؟ فقال: تقدر ما تساوي من الثمن وتدفع له بقدرها، فقومت بخمسمائة دينار، فقال المنذر للخديم: ما عندك فيما ندفع له؟ فقال: الخمسمائة، فقال: إن هذا اللؤم، رجل أهدى لنا جارية، فوقعت منا موقع استحسان، نقابله بثمنها، ولو أنه باعها من يهودي لوجد عنده هذا، فقال له: إن هؤلاء التجار لؤماء بخلاء، وأقل القليل يقنعهم، فقال: وإنا كرماء سمحاء، فلا يقنعنا القليل لمن نجود عليه، فادفع له ألف دينار، وأشكره على كونه خصانا بها، وأعلمه بأنها وقعت منا موقع رضى.

لإبداء الرأي حول هذا المقال أرسل رسالة قصيرة SMS  تبدأ برقم الكاتب 6227 ثم إلى الكود 82244

 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

رأي الجزيرة

صفحات العدد