Al Jazirah NewsPaper Friday  06/06/2008 G Issue 13035
الجمعة 02 جمادىالآخرة 1429   العدد  13035
البشر ومنابع تشريعهم
د. محمد بن سعد الشويعر

الله سبحانه هو المشرّع لعباده، بما تستقيم به عباداتهم وأمور حياتهم، يأتي كل أمة هذا التشريع، عن طريق الرسل، عليهم الصلاة والسلام، رسول بعد رسول، فجاءت رسالة محمد صلى الله عليه وسلم الخاتمة، الصالحة إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، وفي

مجلس تطرّق الحديث، إلى ما يجري في الانتخابات بالأمم، وحماسة كل حزب ضد الآخر، فقال أحدهم: للغربيين نظرة تختلف عن مكانة المسلمين، في تداول الأمور، والمشاورة بينهم فيما يخدم الفرد والجماعة، إذ جعلوا الأمور تدار بالآراء الشخصية، والمجتمع يتوزع إلى أحزاب، كل حزب له مآرب ومشارب، غير ما لدى الآخر، مستشهداً بالآية: {فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُم بَيْنَهُمْ زُبُرًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ} (53)سورة المؤمنون، علاوة على وجود آيات في تحزّب الناس كثيرة، وقد بيّن الله عن الأحزاب، أنهم أقوام تجمعوا لحرب رسول الله، وإسكات صوت الحق الذي جاء به من عند ربه.

وبيّن سبحانه عن حزبين في سورة المجادلة: حزب الله الذين يأتمرون بأمره سبحانه، ويعرضون أمورهم على ما شرع لعباده، وحزب الشيطان الذين يصدّون عن الحق، ويعادون رُسُل الله، فحزب الله هم المفلحون، والآخر أصحابه هم الخاسرون.

وعند تفسير هذه الآية، يقول صاحب الظلال: لقد مضى الرسل صلوات الله وسلامه عليهم، أمة واحدة، ذات كلمة واحدة، وعبادة واحدة، ووجهة واحدة، فإذ الناس من بعدهم أحزاب متنازعة، لا تلتقي على منهج ولا طريق.

ويخرج التعبير القرآني المبدع، هذا التنازع في صورة حسية عنيفة، لقد تنازعوا الأمر حتى مزّقوه بينهم تمزيقاً، وقطّعوه في أيديهم قطعاً، ثم مضى كل حزب بالمزقة التي خرجت في يده، فرحاً لا يفكر في شيء، ولا يلتفت إلى شيء.

مضى وأغلق على حسّه جميع المنافذ التي تأتيه منها أية نسمة طليقة، أو يدخل إليه منها أي شعاع مضيء وعاش الجميع في هذه الغمرة مذهولين، مشغولين، بما هم مغمورين لا تنفذ إليهم نسمة محبّة، ولا شعاع منير (18-35).

إن من يقرأ الآيات الكريمات، الثلاث بعد هذه الآية، حول الأحزاب، التي ورد ذكرها في القرآن الكريم، ومواقفهم من دعوة رسول الله صلى الله عليه وسلم، بحيث ضلّ أهلها، عن جادّة الصواب.

وإن كانوا يسمّون تحزّبهم، وما رسموا من أفكار: ديمقراطية، أو حكم الشعب للشعب، وبعضهم ليبعد النجعة، فيسمي المراد: بأنه هو عمل الشورى، التي يدعو لها الإسلام.

إلا أن الآيات الثلاث، التي تلت هذه السابقة، من سورة المؤمنين، حول الأحزاب وضلال أهلها، فإنها تبيّن المكانة التي يجب أن يكون عليها المؤمن، من الرابطة الحقة، بالإيمان بالله: خشية له، وعدم الإشراك به، فهم يعملون وينفقون، وقلوبهم عامرة، وخائفة من موقف يوم القيامة، بعدم القبول.. ومع هذه التّقوى والخوف، لم يثنهم ذلك، بل استمروا في أعمال الخيرات: تسابقاً وبذلاً بنيّة صادقة.

ومع هذا التنوع ومغالبة النفوس، فإن الناس، كما بيّنه الله، في أيام رسول الله صلى الله عليه وسلم، وما حصل من وقائع وحوادث، وهكذا حالهم متى تغلب على النفوس النزعة الفردية والمصلحية، حيث بيّنت الآيتان من سورة المجادلة هذين النوعين من الخصائص التي تحولت إليها النفوس البشرية: إيجاباً وسلباً.

القسم الأول: هم أصحاب النزعات، الذين يعتّدون بآرائهم، ويتصارعون فيما بينهم، ليزكوا أنفسهم وما يريدون، كل فرح بما عنده، متحمس لرأيه، حيث يراه هو الأصوب؛ لأنهم يريدون ظاهر الحياة الدنيا، وهم عن الآخرة غافلون، ولا يعملون لها.

والقسم الثاني: هم المرتبطون بالله، في جميع أعمالهم، السائرون وفق تشريعه سبحانه، ومع ذلك يسيطر عليهم الفزع والخوف، بعدم القبول خوفاً من الله: بفلتات اللسان، وعثرة القدم، مشفقون من عدم القبول، لإحساسهم بالتقصير في أداء ما لله عليهم من حق.. لأن من كان بالله أعرف، كان منه أخوف.

رُوي عن عائشة رضي الله عنها، أنها قالت: يا رسول الله: {وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوا وَّقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ} هو الذي يسرق ويزني ويشرب الخمر وهو يخاف الله عزّّ وجلَّ؟ قال: لا يا بنت الصّديق، ولكنه الذي: يصلي ويصوم، ويتصدّق، وهو يخاف الله عزَّ وجلَّ) أخرجه الترمذي.

ولما كانت تلك الأحزاب: قديماً وحديثاً، تصدر في أعمالها وتشريعاتها، من قاعدة بشرية، فإنها تتبدل وتتغيّر من وقت لآخر، وبحسب ما يظهر من مصلحة وقتية، ومنافع ذاتية؛ لرجالات من أولئك الأحزاب، بل إن ما يزيده زيد لو لم يتحقق، فإنه يتحوّل للحزب الآخر، ويغيّر آراءه السابقة.

ومعلوم أن الرأي البشري قاصر عن استيعاب شؤون الحياة، والأفق محدود التطلعات، وإن تم شيء في وقت من الأوقات حسبما يراه المفكرون في ذلك المجتمع، وبمقارنات قانونية وتنظيمية في بعض الأوساط، فإن وجهة النظر هذه، لا تلبث أن تتبدل، حيث يجد المتابعون لهذا الأمر، مبررات لكثرة التعديلات، والاستثناءات والتفسير لكل مادة من الوضع البشري، بعد أن جعلوها تشريعاً، ينظمون بها حياتهم، ويرجعون إليها في تفسير شؤونهم الآنية، وصدق الله في قوله الكريم: {أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللّهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ اخْتِلاَفًا كَثِيرًا}(82) سورة النساء.

لكن التشريع قد جاء لرسول الله صلى الله عليه وسلم، توجهاً من ربه، ليبلّغه للأمة في وقته، ولمن بعده، إلى أن يرث الله الأرض من عليها، {شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ} (13) سورة الشورى.

فكان متلائماً مع كل زمان؛ لأن الله سبحانه هو العالم بأحوال البشر، وبما تصلح به شؤونهم، وتستقيم معه معايشهم، فكان اتباع هذا الدين هم حزب الله، يسيرون وفق تشريعه، ويطبقون أوامره، وينتهون عند نواهيه، وقد جاءت هذه التشريعات مرنة، مبنية على التيسير والتسهيل {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} (16)سورة التغابن، {هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} (78)سورة الحج، ورفع عنهم الحرج، وعدم التشديد على النفوس، وتحميلها ما لا تطيق رحمة منه سبحانه.

والشواهد في تشريع الإسلام، كثيرة، وليس ما يقوله المريدون التنقص من شريعة الإسلام، واتهامها بالتناقض، حاشا وكلا، ولكن هذا ما يسميه الفقهاء، استصحاب الحال، فقد جاء التيسير تخفيفاً في مواطن: كالتيمم عوضاً عن الماء في رفع الحدث، والصلاة قاعداً، أو مستلقياً لمن لا يستطيع لمرض أو غيره، والتخفيف عن النساء في الحيض والنفاس، وغير هذا من أمور مبسوطة عند الفقهاء.

وقد يأتي سؤال، كما هي عادة من يطرح الشبهات، بالقول: ما بال الأنظمة المتعددة في بلاد المسلمين: للمرور وللموظفين، وللشؤون المالية والرياضية، وللأحوال الشخصية، وغيرها كثير جداً تحترمونها، وتعدلون فيها، وهي من وضع البشر، وما الفرق بينها، وبين القوانين في بلاد الغرب: كالحرية الشخصية، والتصرفات فيما يتعلق بالشباب: ذكوراً وإناثاً، وحقوق المرأة في المساواة بالرجل في كل شيء.. وغيرها من أمور لا تقبلونها منّا.

فيرد عليه، بأن الأمر له شقان: الشق الأول: ما يتعلق بالأمور بين الخالق والمخلوق، فهو مخلوق لعبادة الله، فكان المصدران للتشريع الإسلامي، يؤصلان أمراً ثابتاً، لا يتغير مع أحوال الناس في كل مجتمع، وبأي زمان، {فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ} (30)سورة الروم، فمن اعتدى عليها، فهو معتدٍ على مشرعها، العالم سبحانه بأحوال البشر لأنها عقيدة وعمل مع الله واستجابة لشرعه، وهو دين الأنبياء الذي دعوا أممهم إليه {وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ } (25)سورة الأنبياء.

والشق الثاني: ما يتعلق بشؤون الناس فيما بينهم، فهم الذين يراعون في أنظمتهم ما تصلح به أحوالهم وتستقيم معه معايشهم، فقد روي أن رسول الله قال لأصحاب نخل، لو تركتموه بدون تأبير؟ يعني تلقيح فتركوه سنة فخرب، وسألوه صلى الله عليه وسلم، فقال: ما أخبرتكم به في شؤون دينكم فهو من الله، وأنتم أدرى بشؤون دنياكم، وفي غزوة بدر جلس في مكان، فجاء إليه واحد من الصحابة متأدباً، فقال: يا رسول الله أهو منزل أمرك الله به، أم هي الحرب والمكيدة؟ قال: بل الحرب والمشيرة، فأشار إليه بطمر الآبار ودفنها، ولا يكون أمام الكفار ماء، فأخذ بمشورته مما جعله الله سبباً في النصر.

كافور الأخشيدي والوفاء:

ترقى في الملك، من عبد مملوك للإخشيد، فأعتقه، وكان فطناً ذكياً حسن السياسة، وكان يدعى له على المنابر في مكة والشام ومصر إلى أن توفي عام 357هـ وهو صاحب المتنبي، وأخباره واسعة الانتشار في كتب التراجم، روى له الأبشهي حكاية في الوفاء، فقال: ومما يعدّ من محاسن الشيّم، ومكارم الوفاء، وأخلاق أهل الكرم، ويحث على الوفاء بالعهود، ورعاية الذمم، ما رواه حمزة بن الحسين الفقيه، في تاريخه قال: قال لي أبو الفتح المنطيقي: كنا جلوساً عند كافور الإخشيدي، وهو يومئذ صاحب مصر والشام، وله من البسطة والنفوذ، ومكنة الأمر، وعلو القدر وشهرة الذكر، ما يتجاوز الوصف والحصر، فحضرت المائدة والطعام، فلما أكلنا نام وانصرفنا، فلما انتبه من نومه.

طلب جماعة منّا، وقال: امضوا الساعة إلى عقبة النجارين، وسلوا عن شيخ منجّم أعور، كان يُقْعدُ هناك، فإن كان حياً، فأحضروه، وإن كان قد توفي فسلوا عن أولاده، واكشفوا أمرهم.

قال: فمضينا إلى هناك، وسألنا عنه فوجدناه قد مات، وترك بنتين متزوجة، والأخرى عاتق، فرجعنا إليه.. يعني إلى كافور، وأخبرناه بذلك، فسيّر في الحال، واشترى لكل منهما داراً وأعطاهما مالاً جزيلاً، وكسوة فاخرة، وزوّج العاتق، وأجرى على كلّ واحدة منهما رزقاً، وأظهر أنهما من المتعلقين بالرعاية له، وبأمورهما.

فلما فعل ذلك وبالغ فيه، ضحك وقال: أتعلمون سبب ذلك؟ قلنا: لا.

فقال: اعلموا أني مررت يوماً بوالدهما المنجّم، وأنا في مُلكِ ابن عباس الكاتب، وأنا بحالة رثّة، فوقفت عليه، فنظر إليّ واستجلسني وقال: أنت تصير إلى رجل جليل القدر، وتبلغ منه مبلغاً عظيماً، وتنال خيراً كثيراً.

ثم طلب مني شيئاً، فأعطيته درهمين، كانا معي، ولم يكن معي غيرهما، فرمى بهما إليّ وقال: أبشرك بهذه البشارة وتعطيني درهمين، ثم قال: وأزيدك أنت والله تملك هذا البلد وأكثر منه، فاذكرني إذا صرت إلى الذي وعدتك به، ولا تنس، فقلت له: نعم. فقال: عاهدني أنك تفي لي ولا يشغلك ذلك عن افتقادي، فعاهدته ولم يأخذ مني الدرهمين، ثم إني شغلت عنه، بما تجدّد لي من الأمور والأحوال، وصرت إلى هذه المنزلة، ونسيت ذلك، فلما أكلنا اليوم ونمت، رأيته في المنام قد دخل عليّ، وقال لي: أين الوفاء بالعهد الذي بيني وبينك، وإتمام وعدك، لا تغدر فيُغْدَرُ بك، فاستيقظت وفعلت ما رأيتم، ثم زاد في إحسانه إلى بنات المنجم، وفاء لوالدهما بما وعد والله أعلم.

(المستطرف للأبشهي 1: 182)



لإبداء الرأي حول هذا المقال أرسل رسالة قصيرة SMS  تبدأ برقم الكاتب 5068 ثم إلى الكود 82244

 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

رأي الجزيرة

صفحات العدد