Al Jazirah NewsPaper Thursday  12/06/2008 G Issue 13041
الخميس 08 جمادىالآخرة 1429   العدد  13041
أما بعد
السلطة الغائبة
د. عبدالله بن عبدالعزيز المعيلي

لكل زمان آياته التي تميزه عن غيره من الأزمنة السابقة له، واللاحقة به؛ ولهذا تجد الأجداد يستنكرون كثيراً الممارسات التي جدت في حياة الناس اليوم؛ حيث يعدونها غريبة عجيبة منكرة لأنها متمردة - في نظرهم - خارجة عن المألوف في زمانهم؛ لهذا ينظرون إليها باعتبارها منكرات تنذر بالويل والثبور، وعظائم الأمور. وعلى الرغم من قلة الإمكانات عندهم، وضعف القدرة على متابعة المتغيرات التي تحدث في زمانهم ومواجهتها، إلا أنهم أكثر إحاطة بسلوكات أبنائهم، وقدرة على السيطرة عليها وضبطها ووقايتها من مواطن الانحراف والزلل.

ولا ريب أن متغيرات هذا الزمان ومستجداته أكثر تعقيداً وتنوعاً، وحِدّةً وخطراً، منها في الزمن الماضي القريب، وسبل التحكم والضبط في هذا الزمان أيسر وأسهل مما كانت عليه في زمن الأجداد، كما أن المعارف والمعلومات المعينة على السيطرة والضبط الآن أوفر وأشمل مما كانت عليه في ذاك الزمان، ومع هذا، لا وجه للمقارنة بين جهد الأجداد في ممارسة أدوارهم في الرعاية والتنشئة، وجهد آباء هذا الزمان في ممارسة الأدوار نفسها، كما أن قدرة الأجداد على التأثير والتحكم كانت أكبر وأمضى أثراً من قدرة الآباء في هذا الزمان، فدلائل المقارنة ومؤشراتها تبدو جلية واضحة لصالح الأجداد، ولهذا أسبابه وعوامله المساعدة، التي يأتي في مقدمتها استشعار المسؤولية والأمانة تجاه تربية الأولاد ورعايتهم، ولهذا كانوا يحرصون كل الحرص على توجيه الأبناء إلى مكارم الأخلاق، ومشاركة الرجال مجالسهم، والتأسي بهم، والاستماع إلى مقولاتهم، وما يستشهدون به من أحاديث وأمثال وقصص وأشعار وبطولات، وكل معاني الرجولة وسماتها، كما يحرصون على اصطحاب الأبناء معهم في المناسبات وتعويدهم على القيام بالواجبات من زيارة أقارب وأصدقاء، وعيادة مريض، ومشاركة في زواج، أو تهنئة بعيد، أو مناسبة فرح، كما يحرصون على تفقد أحوال الأبناء ومتابعتهم، والتعرف على أقرانهم وأصدقائهم، ومع من يجلسون ويسمرون، فالأبناء كانوا تحت السمع والبصر، ومحط الاهتمام والرعاية والعناية، لا يفترون عن مراقبتهم والسؤال عنهم حتى يبلغوا مبلغ الرجال.

أما جُل آباء اليوم فمشغولون منشغلون، لاهون ملتهون، يلهثون بشغف وراء سراب مشاغل الدنيا وأطماعها، لقد نسوا الأهل والأبناء، وانكبوا على المكاتب، يسهرون مع الأصدقاء والزملاء في الاستراحات ويستمتعون بمجالستهم أكثر من استمتاعهم بالجلوس في بيوتهم، ولقد وصل سوء الحال بالبعض لدرجة أنه لا يعرف في أي الصفوف يدرس الأبناء، بل لا يعلم في أي مدرسة يدرسون، ومع من يجلسون ويسهرون، ومن يصادقون ويسامرون، تبدو مظاهر التغير والانحراف واضحة فلا تلفت انتباهاً ولا تثير استغراباً ولا غيرة، القلوب لاهية، والنفوس مشغولة، والعقول سارحة، في هذه الأجواء المضطربة، والبيئات المتوترة، يترعرع أبناء اليوم؛ لذا تراهم صيداً سهلاً يتلقفهم الأشرار والفجار، ودعاة البغي والضلال، يسرحون بهم ويمرحون، ويوجهونهم كيفما شاؤوا، والآباء في غفلة ساهون، ولهذا لا غرابة أن يتفلت الأبناء ويضيعوا، ويخرجوا عن جادة السواء والاستقامة، إلى مهاوي الردى والانحراف الفكري والسلوكي.

إنّ سلطة جل الآباء ضعيفة في هذا الزمان، بل غائبة عند البعض، والمتغيرات المعقدة المتنوعة المتلاحقة تستوجب عليهم أن تكون أعينهم واسعة، وعقولهم واعية، وجهودهم دائبة، فصلاح الأبناء يتحقق برعاية الآباء ومتابعتهم، وتفقد أحوال الأبناء ومراقبتهم، قبل أن يستحوذ عليهم ما يشوه فكرهم، ويحرف سلوكهم عن جادة السواء والاستقامة، فتحصل الندامة، ولات ساعة مندم عندئذ، أو تلقى التبعية على مؤسسات الأمن والتعليم التي يعد دورها مكملاً لما يجب أن يقوم به الآباء من أدوار استباقية لما يخاف منه ويخشى.

فيا أيها الآباء تعاملوا مع أبنائكم بحب، وأحسنوا تربيتهم وإعدادهم في ضوء ما قاله أحد الآباء المحب لأبنائه: (أحبهم لأنني أحب نفسي، وهم بعض نفسي، بل إنهم عندي لخير ما في نفسي، هم عصارة قلبي، وحشاشة كبدي، وأجمل ما يترقرق في صدري؛ لأنهم أول من يعينني في ضعفي، ويرفه عني في شيخوختي، ويواسيني في علتي، ويتلقى في العزاء إذا حم القضاء)، إنكم أيها الآباء بهذا الحب تحققون ما تطمحون إليه وترجون في أبنائكم من استقامة وصلاح وخير وآمال دينية ودنيوية.



لإبداء الرأي حول هذا المقال أرسل رسالة قصيرة SMS  تبدأ برقم الكاتب 7789 ثم إلى الكود 82244

 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

رأي الجزيرة

صفحات العدد