Al Jazirah NewsPaper Sunday  06/07/2008 G Issue 13065
الأحد 03 رجب 1429   العدد  13065
فشل المنهج العلماني (2-4)
عبدالله بن محمد السعوي

مع أن طرح طه حسين كفاعلية تدميرية، يفتقد لأدنى مقومات التأثير في الوعي العام، ولا يمتلك ما يؤهله ولا لأدنى درجات القبول!، فهو طرح يُرفض بالفطرة إلا أن هناك من رشح نفسه -كما هو حال هذا الكاتب- ليكون طبالاً لطه حسين ، وزماراً يهتف باسمه، ويسبح بحمده، ..

..عبر عقلية رغبوية لا طاقة لها بالوصول إلى عمق طرح طه حسين، والوقوف على تناولاته الكارثية المناوئة وبشدة للنص القرآني، جهل هذا الكاتب بمبادئ البنية العميقة في ثقافتنا الإسلامية، وتواضع قدراته المعرفية -هذا إن كان ثمة وجود لها!- في المجال العقدي، وافتقاده للنضج الفكري الحي والفاعل، هو السبب الذي جعله يتقبل بسهولة كل فكرة مهما أقذعت في مصادمتها للنص، بل حتى لو كانت تشكيكاً بالقرآن الكريم، مادامت صادرة عن طه حسين!، فهي تنطلي عليه، بل يسارع - وبإمعية متناهية - إلى تصديقها، ومن ثم التأسيس عليها!!، عبر وعي وصل في التعصب منتهاه، ومن المعروف أن التعصب يقوض مقدرة صاحبه على النقد، ويضعف استجابته لدواعيه، بل وتجعله يرى أبشع السلبيات على أنها أبرز الإيجابيات، هذا الكاتب أتي من ناحية جهله، وخمول عقله المعرفي، هذا التبلد العقلي الحاد، هو الذي جعله يصف كتابا مثل كتاب (في الشعر الجاهلي) بقوله: (فأول مرة يحاول باحث عربي ممارسة البحث العلمي الموضوعي المجرد، وأول مرة يخرج الباحث العربي -كشرط للموضوعية العلمية- من التزاماته الخاصة، ويطرح بحثاً عقلانياً -أو هكذا يريد له أن يكون- يمكن أن يخاطب به الإنسانية جمعا، بعيداً عن عقائدها وقومياتها، وتصوراتها الخاصة عن نفسها) هكذا، وبسطحية متكاملة -منعته من مشاهدة كل أبعاد الصورة، والإحاطة علما بكافة معالمها- يبجل كتاباً لا ينطوي في حقيقته إلا على التشكيك بآيات القرآن، ومن ثم تقويض البني العقدية، ومبادئها العليا!!، إنها مهزلة بكل المقاييس، أن يعظم بالتقليد والتهويل، من لا يستحق إلا التجهيل والتضليل!!، عندما تستمر هذه الوتيرة في التصاعد، فإن بنياننا الأخلاقي والاجتماعي سيكون مرشحاً وبجدارة لأبشع الأخطار؛ هذا المتيم الذي قبل بوصاية طه حسين عليه، هو في الحقيقة جاهل مركب، أي أنه جاهل، ويجهل أنه جاهل، فهو متناقض ولا يعي أنه متناقض!، فهو في الحين الذي يدعو فيه إلى وجوب الاستقلالية العقلية، وعدم قبول الوصاية من أي كان!، هو في نفس الوقت، متخم وعيه بالأفكار الرجعية، لأنه سلم عقله لرموزه، وتعامل معهم على نحو تقديسي، فبات أسيراً لطه حسين والطهطاوي، وقاسم أمين، وسلامة موسى، فهو مريد مخلص لهؤلاء، يقدم لهم فروض الولاء والطاعة، ولا يحيد عن منهجهم قيد أنملة، ثمة عشق صوفي يأخذ بتلابيب عقله، ويصرفه عن معاينة المكنون العفن الثاوي في عمق طرح سادته الأولياء!، سبب سهولة انقياد هذا الوعي، وتخدره أمام أطروحات طه حسين، وأطروحات غيره من متبني الفكر العلماني، هو ضآلة محصلته المعرفية وفي الجانب الشرعي على وجه الخصوص، وكذلك نتيجة لضعف شخصيته الثقافية على نحو عام، ولهذا فالفكرة لديه تستمد قيمتها من مكانة قائلها، لا من مدى اقترابها من الحقيقة، ومن مدى ما تنطوي عليه من طاقة إبداعية معينة!، وعوداً على بدأ، فثمة عاشق آخر للغرب لا يقل عن طه حسين، وهو (سلامة موسى) حيث يقول: (أنا كافر بالشرق مؤمن بالغرب، وفي كل ما أكتب أحاول أن أغرس في ذهن القارئ تلك النزعات التي اتسمت بها أوروبا في العصر الحديث، وأن أجعل قرائي يولون وجوههم نحو الغرب، ويتنصلون من الشرق (انظر اليوم والغد) 8-9.

رابعاً: مفهوم المعرفة، فالخطاب القرآني في جانب المعرفة ربط بين العقل والقلب بوشائج محكمة فلم يركز على العقل وحده كما هو الشأن عند الفلسفة اليونانية ولم يركز على القلب وحده كما فعلته الفلسفة الغنوصية. هذا التكامل في مفهوم المعرفة بات مقدمة أولية لتجسيد التكامل في كل تفاصيل الحياة بل والتكامل والترابط بين الحياة والموت؛ الإسلام أكد أن ثمة أدوات معرفة غير العقل لكي يستكمل الإنسان الوعي ويستوعب النظرة الشاملة للكون والحياة ومن تلك الوسائل الوحي والنبوة، ووظيفة الرسل هي هداية الإنسان وتعريفه بما هو خارج نطاق عقله، ودلالته على الأبعاد المتباينة لعالمه، سواء عالم الشهادة المنظور، أو عالم الغيب المتصور؛ أما العلمانية فقد شطرت المعرفة شطرين واعتمدت العقل وحده، فاعتبرت الإنسان قيمة مادية خالصة، وقضت على جانب محوري من كيان الإنسان ووجوده وهو الكيان الروحي. الوعي العلماني سيطر عليه العمه -وهو أشد من العمى- فحجب عنه الحقائق وأوقعه في مستنقع الانشطارية على نحو جعله يفهم الحياة بمقياس ناقص الأدوات وبنظرة عاجزة عن وعي منهج المعرفة القائم على الترابط، والتواصل والتكامل والاتصال؛ إن الخطأ القاتل الذي سقطت العلمانية في فخه، هو اعتقادها بسيادة العقل، وأن ليس ثمة حقيقة إلا وهي خاضعة للعقل، واعتباره المنهل الوحيد للمعرفة مصادرة بذلك كل آليات المعرفة الأخرى من وحي وتاريخ وفطرة، وفات على وعيها أن العقل لا يملك القدرة على الحكم على الأشياء إلا إذا حصرها بين جناحي الزمان والمكان، وثمة حقائق كبرى ليس مؤهلاً بوسائله الحسية المتاحة له أن ينظر فيها، فهو محدود لا يتصور غير المحدود بل هو عاجز عن استكناه أبعاد الكائن الإنساني؛ المنهج العلماني يحارب القيم الأخلاقية عبر القول بنسبية الأخلاق وخضوعها لعاملي الزمان والمكان وتباين ظروف الحياة.

إن القول بهذا هو من انتكاسات الفلسفة المادية فثبات القيم والأخلاق حقيقة أكدها الخطاب القرآني ولا سبيل إلى تجاوزها {فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ}. الفطرة لها دور استقلالي عن الزمان وليس ثمة تبديل لسنن الله في الخلق ولا تحويل؛ إن العلمانية -كجسم غريب على المجتمع الإسلامي- بكل تحدياتها ومفاهيمها الأيديولوجية إفراز لبيئة الغرب والتجربة العلمانية منيت بفشل ذريع في المكان الذي نبتت ونمت وترعرعت فيه، وعجزت عن إثبات فاعليتها في وطنها الذي تخلقت فيه!، فكيف يراد منها أن تكون صالحة في بيئة أخرى مباينة تماماً من حيث المعطيات الحياتية والمقومات الفكرية؟! العلمانية عاشت في صيرورة تطورها انفصاماً نكداً بين الدين والعقل على نحو لم ولن يرد في واقع فعلي على امتداد تاريخ حضارتنا الإسلامية، ومن هنا فمحاولة استنباتها في الواقع الإسلامي محاولة عابثة محكوم عليها بالفشل مقدماً؛ مأساة العلمانية أنها منبوذة في سياق الوعي الثقافي العام، إلا من أقلية ضئيلة تردد - وبتكرار إمعي- كثيراً مما لا تفقه له معنى!.

انشقاق هذه الأقلية الذين استطاع المنهج العلماني أن يجرفهم، حتى باتت عقولهم المتهالكة متخمة بالجهل العلماني، انشقاق هذه الأقلية عن بقية المجتمع ليس خسارة للمجتمع بل هو مكسب يضاف إلى رصيده، إنهم ليسوا إلا حمولاً ثقيلة تنزاح عن كاهل الجسد الاجتماعي المتضرر باصطحابها، إن المجتمع برمته لا يتشرف بانتمائهم إليه، بل يلفظهم، لأن ضررهم المتعدي أكبر من نفعهم، بل حتى نفعهم ليس وارداً بوجه من الوجوه، فالضرر سمة لازمة لهم لا تني ترافقهم، ولا تنفك عنهم بحال، إنهم ليسوا إلا نقاطاً كالحة السواد تدنس بياض الوجه الاجتماعي الذي يجب أن يحتفظ بنقائه بعيداً عن هذا العنصر السرطاني؛ إنهم لا يضيفون شيئاً حتى للعلمانية ذاتها، وإن كان ثمة إضافة مّا، فهي محصورة في تكثير سوادها القطيعي!.

عشاق العلمانية لا ينخرطون في بنيتها العامة، لجاذبية تتوافر عليها، أو لأطر معرفية ذات بعد نوعي تطرحها، وإنما هو عشق للسلوك الموضوي فالموضة المناوئة للماضوي هي عنصر الاستقطاب في هذا المجال؛ العاشق العلماني لتضاؤل حصافته العقلية متيم بالعلمانية، وهذه عادة الجاهل، فهو عندما يحب يصاب بالعمى، فلا توسط لديه، بل يعشق حتى النخاع، ولذا فهو يتجاوب -نتيجة لهذا الزخم من الحب الأنثوي الذي يتملكه- بشكل أبله مع كل أطروحة علمانية، تجده مأخوذاً بشعاراتها عن حقيقتها، مسكوناً بوعودها الطوباوية، وجنتها الموهومة التي مكانها في الأذهان لا في الأعيان!؛ المتناغم مع العلمانية يؤتى من جهة تسطح تفكيره، وهذا يجلي لنا أن العلمانية لم تفرض ذاتها على مريديها (البسطاء) بفعل موضوعية منطقها الداخلي، ونقاء منتجها الأيديولوجي، وفعالية دورها في تجسيد التطور، وإنما بفعل ارتكاس متلقيها في أحط دركات الجهل، وضمور قدراته النقدية!؛ فثمة عقول ليست إلا قاعاً صفصفاً خاوية من العلم، متشبعة بنقيضه، هذا الجهل هو ما يجعل أحدهم ينتشي جذلاً عندما يوصف بأنه علماني، فهذا دلالة في حسه المتدهور، على التميز الذي - في رأيه - يعز على غيره!؛ هناك من يبتهج ويتمايل من شدة الفرح، عندما يوصف بأنه علماني، أو ينعت بأنه ليبرالي، عندها، ترتسم الابتسامات البلهاء الصفراء على شفتيه، مع أنه لا يفقه معنى العلمانية!، ولو سألته عن معالم العلمانية، وطبيعة نظرياتها، وخطوطها العريضة، وعن خصائصها العامة، وعن أبرز منتهجيها، وعن موقفها من الدين، وعن موقف الإسلام منها، وهل هناك فرق بين العلمانية والليبرالية، وإذا كان ثمة فرق، فما معالمه؟! لو سألته عن ذلك، لأسقط في يده، ولحار جواباً!!. الوعي العلماني، وعي منغلق قرائياً، غير متفتح، حتى وإن خيل له غير ذلك، فهو لا يقرأ، وإن قرأ ففي الكتب التي تنسجم وخطه الفكري، تلك التي تعزز ما لديه من مفاهيم، وترسخ ما يؤمن به من أفكار، ولذلك هو يشعر بنوع من الاستغراب، وتنتابه الصدمة حينما يسمع أن لابن تيمية أو لابن القيم أو لأحمد بن حنبل أو للشافعي أو لابن حجر أو للنووي أو للعز بن عبدالسلام أو للشاطبي أو لأبي حنيفة أو لأحد علماء الأمة المعاصرين آراءً تهدم ما تأصل لديه من عادات فكرية متجذرة، سبب اندهاشه، هو تقوقعه، واحتباسه داخل دائرة قرائية محدودة لا يتجاوزها بحال، مما جعله لا يرى إلا في اتجاه واحد، وذلك لعجزه عن التواصل القرائي الفاعل مع مفكري الأمة الكبار الذين يعيشون خارج دائرته، فهو لا يعرف كتبهم، وإن عرفها لم يقرأها، وإن قرأها لم يفهمها؛ إن الانفتاح القرائي، وعدم الانحباس في الأنساق المعرفية السائدة، والتماس القرائي مع مختلف المنظومات الفكرية، وقراءة وجهات النظر المتعارضة، والوقوف عن كثب على المبادئ والأدبيات التي تشكل فكر متباين المكونات، أمر على درجة عليا من الأهمية، فهو يخلص البنية العقلية من سلبيات الرؤية الأحادية، ولكن هذا مشروط بأن يكون لدى القارئ قدرة على سبر أغوار الأشياء، وعلى التقييم والتقويم والتصويب، فلا يسلم عقله للمؤلف، وينساق معه دون أن يشعر، وأيضاً لا يتمنع لمجرد التمنع، وإنما قراءة نقدية موضوعية، تفلتر المقروء، وتميز سلبياته من إيجابياته.

إنه بانغلاقه القرائي في منظومة فكرية محددة، حجّر واسعا، وحصر نفسه من خلال دورانه في فلك مختزل، أغلق بموجبه منافذ البصيرة في وجه أشعة النور القادمة من بعيد؛ إنه لو غرد خارج سربه، وقرأ لعلماء الأمة، ولعمالقتها العظام، لحرر وعيه من ذلك الاحتلال، ولكان أكثر تعقلا، ولتفتح لبه، وتضاعفت إمكانياته، ولبات لديه أفق واسعا يمكنه من محاكمة كل ما يرد على ذهنه من أطروحات، محاكمة إيجابية قوامها الموضوعية والتجرد، وسوف يستعصي بالتالي على القولبة، والبرمجة، والتجيير الخاص.



abdalla-2015@hotmail.com

 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

رأي الجزيرة

صفحات العدد