Al Jazirah NewsPaper Sunday  06/07/2008 G Issue 13065
الأحد 03 رجب 1429   العدد  13065

مصر الحضارة.. مصر النيل.. مصر أبو الهول!!

 

قل للأعاجيب الثلاثة مقالة ..

من هاتف بمكانهن وشاد

(أحمد شوقي)

لكل بلد من البلدان آثار خاصة بها، وقد تختلف هذه الآثار من بلد إلى آخر، فهناك من هذه الآثار ما يشكِّل مصدر ثروة للبلد الذي هي تابعة له، كمعالم سياحية يفد إليها السياح من كل حدب وصوب للوقوف على هذه الآثار ومشاهدتها، وتدوين ملاحظاتهم عنها مصحوبة بالصور والذكريات، فزيارة المواقع الأثرية هواية يعشقها الكثيرون مثلما هي الهوايات الأخرى في نواح الحياة، ولكنها هواية تختلف في مدلولاتها الكبيرة، علماً بذاته وله علماؤه ومخطوطاته وتنقيباته، بل معالمه الجمة. فالأهرامات في جمهورية مصر الشقيقة تعتبر من المعالم الأثرية الفرعونية الضاربة في عمق التاريخ المصري منذ العصور الغابرة والأزمنة الساحقة الشاهدة على حضارة مصر. فهي أعجوبة من عجائب الدنيا السبع .. حدثنا التاريخ عنها ذلك الحديث الذي يعجز القلم عن وصفه في هذه العجالة من السطور القليلة والتي لا تفي الموضوع حقه، ولكنه النزر القليل القليل!!

الأهرام (خفرع) و(خوفو) و(منقوع) فرعونية الأصل .. مصرية الوصل .. أصلها عمل فرعوني عظيم شاق، من عهد المماليك الفراعنة. ووصلها اتصالها وترابطها بحضارة مصر وتاريخاً، حتى أصبحت جزءاً لا يتجزأ من تاريخ مصر الفرعونية .. الأهرام في ماضيها وحاضرها ومستقبلها أصبحت مادة جيولوجية أساسية للكثير من البحوث العلمية الأثرية التي استنهضتها، وجعلتها حقيقة ماثلة للعيان أقرب للخيال.

ولم تخل معظم كتابات المؤرّخين والأدباء والصحفيين المصريين عن ذكر الأهرامات في المقالة والقصة والرواية، فهي عبقة برائحة إهرامات الجيزة والأقصر ومعبد أبوسنبل .. وحينما يكتب الكتّاب والأدباء والصحفيون العرب عن ذلك من الأدباء المصريين أمثال: طه حسين، والعقاد، ونجيب محفوظ وتوفيق الحكيم، أو أم كلثوم ومحمد عبد الوهاب .. فإننا نلاحظ أن في ثنايا المقالة يعرج كاتبها على تسمية هذا الأديب أو الفنان بتسميته ب(الهرم) نسبة إلى أهرام مصر .. وهذه حقيقة لا غبار عليها، فالكاتب أو الفنان منهم يشكِّل بعلمه وثقافته وفنه هرماً شامخاً وشاهداً على حضارة مصر.

الأهرام .. أعجب فيها الداني والقاصي من السياح العرب والأجانب، وما من سائح تطأ قدماه أرض مصر إلا ويتبادر إلى ذهنه زيارة الأهرام، هذه الآثار العظيمة التي ما أن يزورها مرة إلا ويتوق لزيارتها مرة أخرى .. كما لو كانت قوة مغناطيسية خفية جاذبة لها! وهل هناك أجمل من الغروب وهو يسدل ستاره الأرجواني الأصيل معلناً الرحيل عن الأهرامات لانقضاء يوم جميل ممتع لزائرها. ان العالم الأمريكي (الفاريز) عندما جاء إلى مصر وأخذ يبحث في هرم (خفرع) عن سر الهرم والملك والحياة بعد الموت، اهتدى إلى أن الفراعنة أخفوا أسرار أكبر من مستوى العلم والعلماء وأن سر الوصول إلى حقيقة هرم (خفرع) عظيمة وخطيرة .. لهم معرفة قوية بأسرار الطب والفلك والحياة .. كذلك المؤرخ اليوناني (هيرو دوت) عندما كان في مصر حدثه الفراعنة عن أن الكهنة لديهم أسرار أناس جاءوا من السماء .. وأن هذه الكائنات السماوية قد صنعوا المعجزات المعمارية الهندسية والطبية في مصر .. وأنهم كما جاءوا من الغرب عادوا إلى الغرب وإلى قمم الجبال، وإنهم جاءوا بسفن من نار .. وإنهم عادوا إلى مكانهم من الشمس والقمر؟!

شيد بناء الأهرام في عشرين عاماً واستخدم فيها كل جبروت العقل الفرعوني .. اشتغل في بناء الهرم مائة ألف رجل يستبدل بمثلهم كل ثلاثة شهور .. ما هي الأهرام ومم تتكون .. هذا ما سوف أعرضه هنا نثراً وشعراً، عما قيل في وصف الأهرام .. قال أحدهم: (كان القصد من بناء الأهرام ايجاد مكان حصين خفي يوضع فيه تابوت الملك بعد مماته، ولذلك شيدوا الهرم الأكبر وجعلوا فيه اسراباً خفية زلقه صعبة الولوج لضيقها، وانخفاض سقفها واملاسها حتى لا يتسنى لأحد الوصول إلى المخدع الذي به التابوت، ومن أجل ذلك ايضاً سد مدخل الهرم بحجر هائل متحرك ولا يعرف سر تحريكه إلا الكهنة والحراس، ووضعت أمثال هذا الحجر على مسافات متتابعة في الأسراب المذكورة .. وبهذه الطريقة بقي المدخل ومنافذ تلك الأسراب مجهولة أجيالاً من الزمان. ويُعد الهرم الأكبر من عجائب الدنيا. قرر المهندسون والمؤرخون أن بناءه يشمل (2.003.00) حجر، متوسط وزن الحجر منها طنان ونصف الطن، وكان يشتغل في بناء الهرم مائة ألف رجل يستبدل بهم غيرهم كل ثلاثة شهور، وقد استغرق بناؤه عشرون عاماً .. وجميع هذا الهرم شيد من الحجر الجيري الصلب ما عدا المخدع الأكبر فإنه من الصخر الصلب المحبب وكان الهرم مغطى بطبقة الجرانيت فوقها أخرى من الحجر الجيري المصقول ووضع الملاط بين الأحجار في غاية الدقة حتى كأن الناظر إلى الهرم يكاد يظنه صخرة واحدة). هذا الوصف العلمي الدقيق في المكونات الصخرية لبناء الهرم يوضح لنا سر عظمة البناء والتشكيلات الهندسية الرائعة له.

هناك ايضاً وصف أدبي جاء على كتابة أحدهم عند شاهدته للأهرام لأول مرة فقال (ولما وقفت بناء الركاب في ساحة الأهرام، وقفنا هناك موقف الإجلال والإعظام، قبالة ذلك العلم الذي يطاول الروابي والأعلام، والهضبة التي تعلو الهضاب والآكام والبنية التي تشرف على رضوى وشام، وتبلى ببقائها جدة الليالي والأيام، وتطوى تحت ظلالها أقوام بعد أقوام، وتفنى بدوامها أعمار السنين والأعوام، خلقت ثياب الدهر وهي لا تزال في ثوبها القشيب، وشابت القرون وأخطأ قرنها وخط المشيب، ما برحت ثابتة تناطح مواقع النجوم، وتسخر بثواقب الشهب والرجوم).

هذا الأندفاع العاطفي الجياش الذي ملك لبابة فؤاده ودفعه لكتابة مقالته عن الأهرام ففاضت مشاعره على قلمه في جزالته اللغوية وصوره البيانية الجميلة أضفت على لغته العربية عذوبتها؟.

وإذا ما عدنا للقديم الجميل في وصف الأهرام، فلا أعتقد أنّ هناك أبلغ وأعظم من وصف أمير الشعراء (أحمد شوقي) فقد وصفها نثراً وشعراً فمن الوصف النثر ما يلي (ما أنت يا أهرام؟ أشواهق إجرام أم شواهد إجرام، وأوضاع معالم أم أشباح مظالم؟ وجلال أبنية وآثار، أم دلائل أنانية واستثار؟ وتمثال منصب من الجبرية أم مثال صاح من العبقرية؟ يا كليل البصر عن مواضع العبر، قليل من البصر بمواقع الآيات الكبر، قف ناج الأحجار الدوارس، وتعلم فإن الآثار مدارس، هذه البحارة حجور لعبت عليها الأول، وهذه الصفاح صفائح ممالك ودول، وذلك الركام من الرمال، غبار احداج وأحمال من كل ركب ألم ثم مال، وها هنا جلال الخلق وثبوته، ونفاذ العقل وجبروته، ومطالع الفن وبيوته، ومن هنا نتعلم أحسن الثناء، وهون بأحسن البناء).

أحمد شوقي الشاعر الكبير .. لم يتوقف في حبه ووصفه للأهرام نثراً مكتفياً بذلك بل تعدّى للغة الأسمى لغة الشعر الجميلة وموسيقاه العذبة فقال:

قف ناج أهرام الجلال وناد

هل من بناتك مجلس أو ناد

نشكو ونفزع فيه بين عيونهم

إن الأبوة مفزع الأولاد

ونبثهم عبث الهوى بتراثهم

من كل ملق للهوى بقياد

ونبين كيف تفرق الأخوان في

وقت البلاء تفرق الأضداد

إن المغالط في الحقيقة نفسه

باغ على النفس الضعيفة عاد

قل للأعاجيب الثلاث مقالة

من هاتف بمكانهن وشاد

الله أنت! فما رأيت على الصفا

هذا الجلال ولا على الأوتاد

لك كالمعابد روعة قدسية

وعليك روحانية العباد

أسست من أحلامهم بقواعد

ورفعت من أحلاقهم بعماد

تلك الرمال بجانبيك بقية

من نعمة وسماحة ورماد

ويبقى القول شاهداً على ذلك الحارس الأمين لأهرامات الجيزة، والمتربع على عرض عظمتها (أبو الهول) وكأنه يذود عنها جحافل الغزاة وصد غزواتهم ونزواتهم الشرسة .. رغم ما أصاب (أنفه) وقد عبث به سيف (بنوبرت) حينما هم بجحافله أن يصيب الأهرامات بسوء، فانتفضت الفراعنة وصبت عليه لعناتها وحروبها في برها وبحرها وكسرته ودحرته أشد دحرة، (أبالهول) الحارس الأمين عندما يقف المرء عنده ويتمعن به حقيقة أنه (مخيف) فمن خلفه الأهرامات وأمامه مصر بناسها ومتحفها الذي يحتوي على نفائس (الموميات) الفرعونية وعلى مقربة من (النيل) الأزرق الجميل، (النيل) الذي غرد به نثراً وشعراً معظم الكتّاب والشعراء في وصفه وتعداد مآثره! والذي تأتي مياهه متدفقة رقراقة من مصابها الأفريقية، وحينما تفيض مياهه بغزارة نتذكر القول المأثور (النيل نجاشي) نسبة إلى الحبشة النجاشية، آنذاك؟! وحينما تنضب وتقل مياهه نتذكر أيضا القصة الموغلة في القدم (عروس النيل) الذي تلقى في عرض (النيل) وقد ولّى زمن الخرافات وبقي النيل يفيض بالبركات.

وإذا كان لي أن أختم مقالتي هذه عن أهرامات (الفراعنة) فيجب الإتيان على شيء آخر مهم، وهو تمثال (الفلاحة المصرية) وربما هذا لم يعرف عنه الكثيرون ولا كاتب هذه السطور للأمانة، ولكن ما عثرت عليه في مقالة ابن مصر البار الراحل الكاتب الأديب الدكتور - سمير سرحان - رحمه الله - عبر مقالة منشورة له بجريدة الأهرام المصرية والتي يستوجب ذكرها هنا طالما الحديث بالحديث يُذكر.

يقول: سمير سرحان (إن المثال الذي صمم تمثال الحرية واسمه (فريدريك بارتولدي) كان قد سافر إلى مصر قبل أن يبدأ في نحت تمثال (الحرية)، فراعه جمال الريف المصري وبراءته كما راعه مياه قناة السويس الرقراقة التي أرسل من خلالها البصر ليصل إلى عالم جديد آخر هو آسيا، وقرر أن يضع لهذه البقعة تمثالاً خاصاً هو تمثال (الفلاحة المصرية) والذي يتأمل التمثالين: تمثال (الحرية) في أمريكا وتمثال الفلاحة المصرية الذي يشرف من بداية أفريقيا عبر قناة السويس إلى آسيا يجد أن التصميم تقريباً واحد، فاليد اليمنى مرفوعة إلى السماء واليد الأخرى ممدودة الكف طلباً للحب والرحمة، وقد قال النقاد إنه مجرد نسخة معدّلة من تمثال (الفلاحة المصرية) .. لقد كان التمثال المصري من خيال الفنان رمزاً للطهر والبراءة والنماء والحرية التي تعطيها الطبيعة للإنسان، أما التمثال الأمريكي فبالرغم من إنه يأخذ الكثير من ملامح تمثال (الفلاحة المصرية)، إلاّ أنه يرتدي ملابس أشبه بملابس الحروب الرومانية ويسدد إلى البحر ومن ورائه إلى قارات الأرض نظرة شريرة ويضع على رأسه تاج قواد الحروب وكأنه في معركة ضد الإنسانية لا معها .. وكأنه في صراع مع الحرية وليس في صفها؟!).

نعم كأنك أيها الراحل بوصفك لتمثالهم (الحرية) أصبت فيما كتبت الحقيقة .. ففي وقفته الصلف والغرور والغطرسة .. التي هي سمة الشر والأنانية للسياسة الأمريكية الطاغية المدعية للحرية والديمقراطية الزائفة؟؟!!.

محمد حمد البشيت


 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

رأي الجزيرة

صفحات العدد