إذا ما كان الصيف الماضي صيف الأفلام التي تحمل أرقاماً كدلالات على موضعها في المسلسلات السينمائية، فإنّ الصيف الحالي أكثر حنكة من أن يعمد إلى تسمية الأفلام بأسمائها الأولى وإضافة رقم ما إلى جانبها. على ذلك، فإنّ (الفارس المظلم) أو
Dark Knight
ليس سوى (باتمان) الثاني أو .... السادس. يعتمد العد على إذا ما كنت تحسب المسلسل الجديد وحده، أو تضيف عليه مسلسل باتمان السابق الذي احتل ركناً من الثمانينات والتسعينات.
و(الفارس المظلم) هو من أكبر ما يحط على الشاشات السينمائية اليوم من أفلام. فشركة وورنر وضعت له خطّة تنفّذها بحذافيرها: افتتاح الفيلم في السادس عشر من هذا الشهر في استراليا والفيليبين وافتتاحه في السابع عشر في الأرجنتين، هونغ كونغ، سينغابور، بيرو، تايوان واليونان. في الثامن عشر في أميركا والمكسيك وكندا والبرازيل وباناما وفنزويلاً .. ثم بدءاً من الحادي والعشرين من هذا الشهر في باقي أنحاء العالم من الإمارات ومصر إلى ايطاليا وهولندا والبرتغال وبريطانيا وتركيا .. وصولاً إلى روسيا واليابان وسواها.
المخرج كريستوفر نولان كان أعاد تركيبة شخصية الكوميكس الشهيرة سنة 2005 حين أخرج (باتمان يبدأ)، ولم يكن ذلك هيّناً بعد الضرر التجاري الذي انزلقت إليه في التسعينات، حين توالت حلقات السلسلة السابقة منحدرة من جيد إلى معتدل ثم إلى أسوأ وأسوأ المغامرة التي خاضها نولان وخاضتها شركة وورنر معه آنذاك كانت كبيرة، ومفادها السؤال حول إذا ما كان ذلك الضرر من الأعطال التي يمكن تصليحها بإدارة ومفهوم جديدين، أو من تلك التشويهات التي تتطلّب انتظار جيل جديد آخر بعد ربع قرن أو نحوه، قبل محاولة إعادة الروح إلى تلك المغامرة الداكنة التي يتوّلى بطولتها رجل يرتدي رداءً أسود ويرسم علامة الوطواط وينشر جناحيه ليطير بهما خالقاً الذعر في أوساط المجرمين أو التحدّى بين العتاة منهم.
تزيين الشاشة
الذي حدث سابقاً أنّ الفيلم الأول (باتمان) تم إنتاجه سنة 1989، وتم استقطاب المخرج تيم بيرتون إليه، وهذا سلّم الشخصية إلى مايكل كيتون وجاء بجاك نيكولسون ليلعب دور الشرير الأول. كانت بداية جيّدة تكلّفت خمساً وثلاثين مليون دولار وجمعت 413 مليوناً عالمياً.
النجاح كان حليف الجزء الثاني لكن ليس بنفس النسبة: (باتمان يعود) (1992) من إخراج بيرتون وبطولة كيتون وشريره الأول داني ديفيتو تكلّف 80 مليون دولار وحصد 282 مليوناً?
بيرتون لم يرد ارتكاب فيلم ثالث من السلسلة، فجلبت وورنر إلى العمل المخرج جوويل شوماكر الذي أنجز الجزء الثالث (باتمان للأبد) سنة 1995 مع فا لكيلمر في العباءة السوداء وتومي لي جونز وجيم كاري كشريرين متناصفي الحجم. ميزانية الفيلم قفزت إلى 100 مليون دولار لكن إيراداته لم تبرح مكانها وانحصرت في نحو 233 مليوناً.
بعده بعامين كان لا يزال الأمل في إنجاح نجاح أكبر ورأينا جوويل شوماكر يخرج جزءاً رابعاً هو (باتمان وروبين) مع جورج كلوني في البطولة وأمامه أرنولد شوارتزنيغر. الفيلم تكلّف بعد شد الحزام 110 ملايين دولار، لكن إيراداته وصلت إلى 100 مليون دولار بجهد بليغ.
المشكلة بالطبع أن المخرج شوماكر ليس دراماتيكيا جيّداً. إنه يستطيع تحويل رواية إلى صور، لكن على حساب المادة. وسياسته كانت في فيلميه إبراز عامل الاستعراض ولو على حساب عامل البطولة. بذلك تم إسناد الأدوار الشريرة إلى نجوم لتزيين الشاشة فحمل (باتمان للأبد) أسوأ ظهور لتومي لي جونز وأسخف إداء لجيم كاري، بينما تم نفخ دور أرنولد شوارتزنيغر كالبالون الأحمر فحجب أهم شيء في سلسلة باتمان وهو باتمان نفسه.
خلفية باتمان
إعادة الثقة إلى باتمان كان طلب الشركة الأول. وإلى هذه الغاية جلبت نصف دزينة من كتبة السيناريو ينسجون خيالاتهم على الورق. وبعض هؤلاء وصل إلى نقطة الاعتبار لكن معظمهم تزحلق بلا تقدير. لكن حتى الذين استطاعوا بيع سيناريوهاتهم وجدوا أن ما كتبوه وُضع في الأدراك. هوليوود كانت تبحث عن شيء جديد ومختلف وفي ذات الوقت أصيل?
وكما حدث مع الكتّاب حدث مع المخرجين. قبل العودة إلى باتمان للمرّة الخامسة، توالى عدد من المخرجين إلى أتون التجربة أوّلهم مخرج اسمه بواز ياكين لكنه خرج من بوابة وورنر ولم يطأها إلى اليوم. بعده تم التفكير بالمخرج دارن أرونفسكي الذي كانت لديه بضعة أفكار جريئة إنما لم تجدها الشركة صالحة للتداول. وفكّرت بالألماني وولفغانغ بيترسون (في خط النار) مع كلينت ايستوود و(طائرة الرئيس - رقم واحد) مع هاريسون فورد) لكن هذا كان مرتبطاً بإخراج فيلم كبير آخر هو (تروي) (مع براد بت).
حين تم جلب المخرج كرستوفر نولان لإعادة إحياء السلسلة، ترك المخرج الذي نال فيلميه السابقين (مومنتو) و(أرق) نجاحاً نقدياً واسعاً، السلسلة السابقة في (الكاراج) الذي أدخلها إليه شوماكر، وبدأ التخطيط لعالم جديد مع ممثل جيّد جديد هو كرستيان بايل?
فيلم (باتمان يبدأ) سنة 2005 تكلّف 150 مليون دولار لكن إيراداته تجاوزت ال 350 مليون دولار عالمياً باعثاً الثقة في جوانب المشروع ككل .. وما فعله نولان هو إعادة صياغة باتمان - الفيلم على أساس باتمان - الأصل. أي الذهاب إلى كيف تكوّنت هذه الشخصية وما الذي مرّت به حتى وصلت إلى حيث أصبحت القوّة التي انصرفت لمجابهم الخارجين على القانون? هذا تضمّن البدء بشخصية بروس واين (كرستيان بايل) في مكان ما من آسيا يبحث عن هدف للحياة بعدما قتل مجرم (كما نرى في فلاشباك) والديه حال خروجهما من مسرحية? وفي فلاشباك آخر نعرف السبب الذي تحلّى به هذا البطل بخصال الوطاويط: لقد سقط صغيراً في بئر كان يشغله الوطاويط وتعرّض إلى إصابة ولّدت فيه نموذجاً بصرياً للاقتداء به. حين يجد بروس الهوية الصحيحة القائمة على حب تحقيق العدالة للمظلومين ونسيان الألم الذي حاق به منذ كان صغيراً حين شهد مصرع والديه عرف خطواته واستغل الثروة الكبيرة التي خلفها والده له لكي تساعده إنجاز هيأته وتصنيع أدواته وخوض مغامراته.
فساد وفوضى
الخطّة نجحت .. (باتمان يبدأ) هو أفضل تقديم سينمائي للشخصية التي وُلدت سنة 1938 من حيث إنها روح وحركة ومغامرة باتمانية حقيقية خالية من حب التنويع والتلوين والاستعراض الكوميدي الخفيف. كل ما فيها ينضح بكل ما كان هواة الكوميكس وأولئك الذين كانوا يريدون التعرّف عليها للمرة الأولى مشاهدته منها? لذلك لم يمل الجمهور التمهيد الطويل بل كان بمثابة تقدمة للمغامرة الأولى التي يتولاها باتمان في المدينة المظلمة التي يعيش فيها?
الفيلم الجديد (الفارس المظلم) أو (الداكن) هو تكملة على ذات الدرب. في الأساس فيلم تيم بيرتون الأول قبل تسعة عشر سنة يشمل في ساعتيه قصّة (باتمان يبدأ) و(الفارس المظلم) معاً. شخصية باتمان يواجه هناك شخصية الشرير الأول (ذ جوكر) وفي حين قام بأدائها في الفيلم السابق المبهر جاك نيكولسون يقوم بأدائها هنا الممثل الراحل (قبل أشهر قليلة) هيث لدجر في الظهور الأخير له على الشاشة (الا إذا أتم تيري جيليام فيلمه
Imaginarium
ذاك الذي مات لدجر وهو لا يزال في منتصف تصويره) لكن على عكس ذلك الفيلم السابق، فإن الشرير لا يطغى على الممثل الأول، بل يوازيه الفيلم الجديد يطرح مسائل مهمّة موزّعاً إياها على أحداث تتعامل ومفاهيم مثل الفساد والقوّة الطاغمة والفوضى وماهية العدالة ودور الإنسان لتأمينها? وفي حين أنّ باتمان في الأصل وفي بعض الأفلام السابقة تطرّق إلى هذه المواضيع، الاّ أنّ الفارق الرئيسي هي أنها مطروحة هنا كأساس في المعالجة وليس فقط لضرورة أن يدور الفيلم عن شيء ما
ايضاً في حين أنّ معظم تلك الأفلام تحدّثت عن حاجة أبناء المدينة (اسمها غوثام في الفيلم) إلى بطل يحقق المعجزة لنصرة القانون الفالت، الا أنها لم تستطع أن تنقل هذه الحاجة إلى الجمهور المتلقّي في الصالة على النحو الذي ينجح هذا الفيلم في إنجازه.
الفيلم بذلك هو عن التحدّي الذي يواجه المفسدون في المدينة حين يتصدّى لهم بطل بقدرات باتمان الجسدية والمادية والميتافيزيقية أيضاً. جوكر هو أقصى ما يمكن الوصول إليه من الإنسان من شر: شخص غطّى وجهه بطباشير ملوّنة واستحوذ قدرات تعتمد الخديعة والعنف وتسلّح بإمعان في تقديس الجريمة بحيث أصبح تجسيداً لها?
وبطبيعة الحال، سينجز الجوكر بضعة نجاحات في هذا الصدد، لكنه سيلفت نظر باتمان إلى ضرورة إيقافه عند حدّه، كاشفاً في الوقت ذاته أن باتمان لا يمكن له أن يكتفي بقدراته العادية، بل عليه أن يشحذ المزيد منها لمواجهة مثل هذا الشر المحكم?
علاقات
لكن في حين أنّ مثل هذه الطروحات الجادّة عادة ما تعرقل أفلاماً قائمة على الحركة، الا أنها عند كرستوفر نولان تلتصق بما يدور ولا تنفصل عنه. الفيلم ينطلق بقوّة من بدايته إلى نهايته والمشاهد سواء أكانت عراكاً مباشراً أو فترة راحة بين المواجهة والأخرى، تتميّز بثبات وقدر من الثقة بالعمل ككل أفضل من المرّة السابقة التي نفّذ فيها نولان (باتمان يبدأ). والمهم جدّاً في هذا المضمار هو أن الشخصيات مكتوبة جيّداً ما يساعد على تجنيب جوكر، كما أدّاه ببراعة هيث لدجر، السقوط إلى الإداء الخفيف البالوني والتهريجي الذي اضطر نيكولسون إليه بسبب من هوان المادة المكتوبة، أو لأنّ المخرج بيرتون طلب منه أن يستعرض الحركة عوض أن تنبع من داخله.
تاريخ باتمان مثير كما الفيلم
ابتدعه بوب كاين وبيل فينغر وتم نشره في مطبوعات
DC Comics
منذ العام 1939، وهو كما نتعرّف عليه في الأفلام ابن صناعي ثري قُتل والداه في حادثة سلب. المسألة التي دائماً ما تثير الاهتمام هو موقع الأب في أفلام السوبر هيرو فباتمان قُتل والده وهو صغير، وسوبرمان خسر والده على الكوكب الذي وُلد هو عليه وتبنّاه صاحب مزرعة حين وجده وزوجته وصاحب المزرعة يموت بعد حين ليس بالبعيد - أي أول ما ترعرع الصبي وأصبح شابّاً والد (الرجل الحديدي) يموت قتلاً أيضا ووالد سبايدر مان غير موجود وهو متّهم بقتل والد صديقه الأعز إليه ما يشكّل هنا صفة مهمّة يمكن دراستها نفسياً، وهي أن يكون الصديق هو نصف سبايدر مان في اللا وعي وبالتالي أن يكون والد صديقه هو والده الذي لم يتعرّف عليه.
في كل الأحوال نجحت الشخصية على ورق مجلات الكوميكس ثم ظهرت في الصحف ككرتونيات يومية مسلسلة. وبيعت كتباً كروايات وظهرت على الشاشة الكبيرة لأول مرّة في العام 1943 في ثلاث عشرة حلقة مدّة كل منها نحو ربع ساعة تعرض مسلسلة في مقدّمة الفيلم الرئيسي على ثلاثة عشر أسبوعاً. بطل تلك الحلقات كان لويس ولسون وهو أول من لعب الشخصية. في العام 1949 ظهر فيلم (باتمان وروبين) (روبين هو الشاب الذي يوظّفه باتمان لمساعدته) ولعب الممثل روبرت لاوري دور باتمان.
هذا كله قبل أن ينتقل باتمان إلى التلفزيون سنة 1966 (كان سوبرمان سبقه إلى التلفزيون في مطلع الستينات) وجاء الفيلم الثالث (باتمان) سنة 1966ثم انقطع التواصل حتى عادت السلسلة السينمائية إلى الوجود في العام 1989م.
هل هناك من جزء لاحق؟ نهاية هذا الجزء الجديد تؤكد هذا، يبقى أن تؤكده الإيرادات.