Al Jazirah NewsPaper Tuesday  05/08/2008 G Issue 13095
الثلاثاء 04 شعبان 1429   العدد  13095
من حتمية الصدام إلى احتمالية الوئام..!
حسن بن فهد الهويمل

حتمية الخلاف داخل المنظومة الواحدة أو بين الفرقاء المتشاكسين أزليةٌ، بل تكاد تكون الظاهرة الطبيعية المتوقعة: {وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ} والوفاق التام هو النشز، والتدافع والتداول لا يتحققان إلا بالصراع،

ودرؤهما أو التخفيف من حدتهما لا يكون بالحسم، وإنما يكون بالتأجيل، ولو كان بإمكان أحدٍ أن يجمع الأطراف كلها بشكل نهائي على كلمة واحدة، لكان ذلك لأولي العزم من الرسل.

والنجاح المتفوق لمن يُرْجئ ساعة الانفجار أو يخفف حدة التوتر، ولو إلى حين. وإرادة الله الكونية نافذة لا تبديل لها ولا تحويل، وتلك المشيئة التي لا تتجزأ، أما إرادته الشرعية فهي المتجزئة، ولهذا شاء لها -لحكمة بالغة لا يعلمها إلا هو- ألا تكون بالضرورة نافذة، وذلك مكمن التخيير والتسيير اللذين يتجاذبان الإنسان الذي حُمِّل الأمانة فحملها عن ظلم وجهل، ولو شاء ربك لهدى الناس جميعاً، وجمعهم على كلمة التقوى، ولكي يظل الصراع على أشده قضى بموت الرسل، مثلما يموت سائر الناس: {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُم مَّيِّتُونَ} فيما استجاب لطلب (إبليس):{ قَالَ فَأَنظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ قَالَ فإِنَّكَ مِنَ المُنظَرِينَ} كما داول الأيام بين الأمم، وفتن الناس، وقد حسبوا أنهم لا يُفتنون، ليعلم الذين صدقوا ويعلم الكاذبين، وإذا قضى ربك أن تكون المرجعية النصية باقية محفوظة تتعاقب عليها الأحقاب، فقد هيأها لمواجهة أي نازلة، والنص المقدس بوصفه المردود إليه ينشق عن دلالات ليست بالحسبان، وصدق رسول الله (رُبَّ مُبَلَّغٍ أوعى من سامع) وخلود النص يتحقق باتساع فضائه لكل الاحتمالات، فالأحوال والتحولات والنوازل توجه بوصلة النص.

فالقوة توجه صوب الفصل الحاسم، والضعف يوجه صوب النص الحمَّال، حتى لقد قال البعض بتعذر النسخ، وما هو موهم به يُعَدُّ من باب الأحكام المرحلية، وإشكالية النسخ تهافت عليها المستشرقون ومن شايعهم من المرتابين، مثلما تهافتوا على أسباب النزول وخصوص السبب والرسم العثماني وجمع القرآن والمتشابه وتلبسه باللغة وإمكانية أَنْسَنَتِه، واحتمال الدلالات لا يحملنا على الإغراق في هذه المتاهات المُضِلَّة، وإن كانت قائمة على أشدها، وما نود تحريره في شأن حوار الحضارات لا يستدعي السعي للتوفيق بين الآراء المتضاربة، وإنما يستدعي إمكانية تنوع الخطاب واستجابته للظروف المعاشة.

والاختلاف حول الإمكانيات واتساع النصوص وقع فيه غيرنا، فطائفة تؤكد على صدام الحضارات، وأخرى تُبشر بإمكانية تعايش الثقافات إذ لم يكن الخطاب العربي وحده المتشائم، والمتقصي لوجهات النظر يجد أنه ليس بين خطاب الصدام والوئام تناقضٌ متى عرف كل قومٍ حدود محققات حضارة الانتماء، ومتى روعيت الثوابت وعرفت إمكانيات كل الأطراف { لاَ يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا} وفي الدعاء: { رَبَّنَا وَلاَ تُحَمِّلْنَا مَا لاَ طَاقَةَ لَنَا بِهِ} وهل هناك تكليف وتحميل يوازي مواجهة الغرب وقواه المتغطرسة بإمكانيات وآليات متواضعة هي من صنعه؟، { وَلَوْ أَرَادُواْ الْخُرُوجَ لأَعَدُّواْ لَهُ عُدَّةً}.

والحياة الدنيا مرحلةُ امتحان للقدرة على التصرف الحكيم في الأزمات، وابتلاءٌ للقدرة على الصبر والمصابرة، واكتشافٌ لقدرات المكلف الاحتمالية والاستنباطية، فالذي أمر (موسى) بمواجهة من يدعي الربوبية بالقول اللين هو الذي أمر (محمداً) وقومه بأن يجد المشركون فيهم غلظة، وهو الآمر بإجارة المشرك وإبلاغه مأمنه، وهو الذي أمر بالبر والإقساط لمن لم يقاتل في الدين ويُخرِج من الديار ويظاهر على المسلمين، وهو الذي أمر بالجنوح إلى السلام، والذين يتصورون واحدية الخطاب في حالة القوة والضعف، ويتمسكون بجهاد الطلب يُعرِّضون مثمناتِ الأمة ومكتسباتها للشر المستطير، ومثل أولئك من يظنون الجنوح إلى السلام مدعاة للتخلي عن إعداد المستطاع من القوة والاستعداد للحرب.

فالجهاد والسلام والعهود مصطلحات لا يكون شيء منها مشروعاً إلا في ظروفه المناسبة له، كما أن الغلظة واللين أحوال إذا شرع أحدهما حُظِر الآخر، وليس أدل على خطأ التقدير والتوقيت من ممارسة المواجهة غير المتكافئة وغير الحضارية وغير المستكملة لشروط الجهاد ومسوغاته التي أدت إلى فرض التحدي على أمة مستضعفة في وقت كان جهاد الكلمة على أشده، وكان النصر والتمكين فيه للخطاب الإسلامي، وكيف لا يحقق جهاد الكلمة أفضل النتائج والله جلَّ وعلا يقول لرسوله صلى الله عليه وسلم: {وَجَاهِدْهُم بِهِ جِهَادًا كَبِيرًا} أي جاهدهم بالقرآن الكريم.

وليس أحد الجهادين أفضل من الآخر على الإطلاق، كما أن السِّلم والحرب يتفاضلان وفق الظروف والدواعي والإمكانيات، والحكماء الناصحون من يملكون وحدهم اختيار المكان والزمان ونوع المواجهة وآليتها، ولا يمكنون الطرف الآخر من الاختيار المناسب، وليس صحيحاً أن الذي يبدأ الحرب هو المنتصر، وأقل الوسائل لحسم المواقف هو السلاح، وإذا كانت الأمة قد نُدِبَتْ إلى مجادلة أهل الكتاب بالتي هي أحسن، فإن المواجهة بالسلاح تكون آخر الخيارات{ وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} وخيار السلم أسلم.

لقد توغلت الدعوة الإسلامية في دول العالم وفي أمريكا بالذات، وتعددت الجمعيات وقامت المراكز وأنشئت المساجد، وتحقق للأقليات الإسلامية من الحرية والكرامة ما لم يتحقق لها من قبل، وحين اهتاج المارقون من الدين كما السهم يمرق من الرميَّة تنبهت المنظمات والمؤسسات السياسية والمباحثية والاستخباراتية ووضعت كل عمل إسلامي تحت المجهر، واستفحل التعدي والتحدي وذاق المسلمون أشد العذاب.

وفي هذا الراهن العصيب الذي أصبح فيه الإسلام والمسلمون مظنَّة الاتهام بكل مقوضات الحضارة والاستقرار العالمي، وتداعت فيه وسائل الإعلام والدعاية المغرضة على الدول الإسلامية كافة وعلى المملكة العربية والسعودية ومناهجها وعلمائها خاصة وأصبح من المتعذر الإغماض على ما يجري، كان لا بد من تحرف سديد وقول رشيد يحقَّ الحق ويبطل الباطل ويقطع دابر الفتن العمياء والإذلال المهين، وأصبح من الضروري أن يطرح ذوو الشأن خطاباً جديداً مناسباً للمرحلة مراعياً للإمكانيات والمستطاع مُتفادياً للتهكلة وتعريض بيضة الإسلام للاستباحة، وليس في ذلك خروج على المنهج الرباني فالتحيز للسلام والتصالح والتعايش في ظل القواسم المشتركة بوصفها مقتضيات إسلامية وإنقاذاً للأمة الإسلامية وإيقافاً للتدهور الذي أصابوه وفوت عليها فرص الدعوة المتاحة من قبل الحادي عشر من (سبتمبر) مطلبٌ ملح لا محيد منه ومن أراد غير سبيل المصلحين المجربين فهو مُحمِّلٌ لنفسه ولأمته فوق الطاقة.

ومن الناس من تنتابه هواجس مخيفة ليست من الدين في شيء، وبخاصة حين يستعيدُ بعض الدعوات الضالة، كالدعوة إلى وحدة الأديان وطبع الكتب الثلاثة (القرآن) و(التوراة) و(الإنجيل) في غلاف واحد، وبناء المسجد والكنيسة والبيعة في مكان واحد، أو المصير إلى ما يسمى بالإبراهيمية التي أغرم بها بعض المفكرين، وهو خوف له ما يبرره، غير أن مشروع الحوار مختلف جداً عما كان يساور المتخوفين، إذ ليس من مقتضيات التعايش والتَّعاذر وتبادل المنافع واستغلال القواسم المشتركة التنازلُ عن شيءٍ من الثوابت، إنه نوع من المشاطرة الفعلية للحضارات الإنسانية، ولا سيما أن الدول المتقدمة في مادياتها وعلومها البحتة ومؤسساتها الدستورية والتشريعية والتنفيذية وسائر أنظمتها تضع في أولويات (أجندتها) انتزاع أي إمكانيات للندية أو التكافؤ، ولم يعد في الإمكان أفضل من إيقاف التدهور المرعب للتمكن من إعادة ترتيب الأوراق والتحرف أو التحيز الذي يمكن من التفكير السليم لاستعادة العافية بأقل الخسائر، ولن يتم شيء من هذا إلا ببعث الاطمئنان عند الطرف الذي يرى أنه تمكن من إدخال المارد الإسلامي في قمقمه، وليس لديه رغبة في المساومة على إخراجه، وتلك أوهام ظلت تحفر في (اللاوعي) حتى أصبحت من الحقائق والوثوقيات، والخطاب الحضاري الذي طرحته المملكة على لسان قائدها والذي قوبل بالاستحسان من كافة الفرقاء خطاب متوازن لا يجوز التفريط به ولا التخلي عنه، كما لا يجوز تحريفه وتقويله ما لم يقل، إن المصالحة والتعايش وتبادل الخبرات وبعث الثقة والاطمئنان لا تغير المحبة العقدية ولا الموالاة ولا الركون إلى الآخر، ومن حاول ليَّ أعناق النصوص فهو الساعي إلى إجهاض المشروع وتفريق كلمة الأمة، إن خطاب المملكة واضح ومحدد ولا يمكن أن يكون كما يتصور المتهافتون على الغربنة، إنه خطاب موزون وواضح، إنه يتوسل بالحوار بوصفه مقصداً إسلامياً، ولا يمتد إلى وحدة الأديان ومشروعيته، إنه يقول بصريح العبارة (لكم دينكم ولي دين).

إنه يسعى جهده إلى تحقيق السلام العالمي من خلال استغلال القواسم المشتركة، ولقد كان لهيئة كبار العلماء فتوى حول الخطابات المتعددة التي تدور حول التقارب، والمملكة بوصفها قبلة المسلمين طرحت مشروعاً يمنع الصدام، ويشيع الاطمئنان والثقة، ويحقق التفاعل الإيجابي، ويوفر الحرية والكرامة الإنسانية لكل شعوب العالم، ولكي يظل هذا الخطاب فاعلاً ومتفاعلاً وحضارياً فإن علينا جميعاً أن نفهمه كما أراده معدُّهُ وملقيه، وأن نتفادى المزايدات الرخيصة.

وإن كان ثمة إجهاض للمشروع الحضاري فلا يكن من عند أنفسنا، واستجابة الرأي العام العالمي فرصة، والفرص لا تطرق الأبواب أكثر من مرة واحدة.



لإبداء الرأي حول هذا المقال أرسل رسالة قصيرة SMS  تبدأ برقم الكاتب 5183 ثم إلى الكود 82244

 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

رأي الجزيرة

صفحات العدد