Al Jazirah NewsPaper Wednesday  06/08/2008 G Issue 13096
الاربعاء 05 شعبان 1429   العدد  13096

للمصطافين مع التحية
د.زيد بن محمد الرماني

 

إن اختلاف أحوال الدنيا من حر وبرد وليل ونهار يدل على سرعة انقضاء هذه الدنيا وزوالها، وكل ما في الدنيا يدل على صفة الخالق - عز وجل - ويدل على صفاته العليا؛ فما فيها من نعيم وراحة يدل على كرم الخالق - سبحانه - وفضله وإحسانه، وما في الدنيا من نقمة وشدة وعذاب يدل على شدة بأسه وبطشه وانتقامه - عز وجل -.

إن موسم الصيف مليء بالدروس والعظات والفوائد الأدبية والاجتماعية والإنسانية.

الوقفة الأولى: اللغة والصيف

جاء في مختار الصحاح للرازي - رحمه الله -: صيف: الصيف أحد فصول السنة، وهو بعد الربيع الأول وقبل القيظ. ويمتد من أواخر يونيو إلى أواخر سبتمبر كما في المعجم الوجيز.

يقال: صيف صائف: توكيداً، كما يقال: ليل لائل وشيء صيفي، ويوم صائف: حار، وليلة صائفة وعامله مصايفة: أي أيام الصيف، مثل المعلومة والمشاهرة والمياومة.

وصاف بالمكان أقام به الصيف، كذا اصطاف وتصّيف، والموضع: المصيف والمصطاف.

وتصيّف من الصيف، كما نقول: تشتّى من الشتاء.

والصائفة: الغزوة في الصيف. وبها سميت غزوة الروم؛ لأنهم كانوا يغزون صيفاً، اتقاء للبرد والثلج.

وجمع الصيف (أصياف وصيوف)، كما أن جمع الصائفة (صوائف).

وصاف اليوم ونحوه صيفاً: اشتد حرّه. إذن: الصيف واحد فصول السنة الأربعة.

الوقفة الثانية: القرآن والصيف

جاء في القرآن الكريم قوله تعالى: (لِإِيلَافِ قُرَيْشٍ إِيلَافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاء وَالصَّيْفِ) - (قريش 1-2).

قال المفسِّرون: كانت لقريش رحلتان: رحلة بالشتاء إلى اليمن؛ لأن اليمن أدفأ، لأنها بلاد حامية، ورحلة بالصيف إلى الشام؛ لأنها بلاد باردة.

قال مالك - رحمه الله -: الشتاء نصف السنة، والصيف نصفها. وقال آخرون: الزمان أربعة أقسام: شتاء، وربيع، وصيف، وخريف.

إن عملية تحديد الوقت في فصول السنة من الأمور الإدارية التي ذكرها الله تعالى في سورة قريش؛ فظروف الطقس لجغرافية جزيرة العرب تؤكد معاني هذه السورة؛ فالطقس في الشتاء في شمال الجزيرة العربية والشام شديد البرودة، بالإضافة للأمطار أو الثلوج؛ لهذا فإن سير قوافل التجارة في ذلك الفصل إلى الشمال، من الصعب؛ لأن الإبل والجمال تتحمل الحرارة. أما البرودة فتصعب عليها.

أما فيما يختص برحلة الشتاء إلى الجنوب في اليمن فقد كان الطقس معتدلاً ممطراً خفيفاً؛ ولهذا كانت رحلة الشتاء إلى الجنوب. إضافة إلى أن الدورة الزمنية لقوافل قريش كانت تستغرق في رحلتها ذهاباً وإياباً من شهرين إلى ثلاثة أشهر؛ مما يؤكد أن زمن سير القافلة كان يتفق مع الطبيعة الجغرافية للجزيرة العربية وظروف الطقس بها.

الوقفة الثالثة: الحديث والصيف

جاء في الصحيحين من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: اشتكت النار إلى ربها، فقالت: يا رب أكل بعضي بعضاً، فأذن لها بنفسين، نفس في الشتاء ونفس في الصيف، فأشد ما تجدون من الحر من سموم جهنم، وأشد ما تجدون من البرد من زمهرير جهنم.

كما وردت أحاديث عديدة تخص الصيف، كما في قوله - عليه السلام - لأحد صحابته: (ألا تكفيك آية الصيف)، وقوله - عليه الصلاة والسلام -: (شدة حرّ الصيف من فيح جهنم)، وقد ورد: (كان رسول الله يلبس ثياب الصيف في الشتاء، وثياب الشتاء في الصيف)، و(كان قدر صلاة رسول الله - عليه السلام - الظهر في الصيف).

الوقفة الرابعة: العرب والصيف

ورد عن العرب قولهم في أمثالهم: (سحابة صيف عن قليل تقشع)؛ فقد شبه العرب الأمر الذي يرجى له الزوال السريع، أو الذي لا يلبث حتى يزول بسحابة الصيف لا تظهر في السماء حتى تتقشع وتتفرق؛ لأن سحاب الشتاء بطيء السير؛ لأنه ثقيل مملوء بالمطر، أما سحاب الصيف فخفيف سريع التفرق والزوال.

كما ورد عن العرب قولهم: (في الصيف ضيّعتِ اللبن). يقال ذلك لمن ضيّع ما في يده، ثم طلبه بعد فواته حيث يروى أن امرأة من العرب تزوجت رجلاً ذا مال، لكنه كان شيخاً تقدمت به السن؛ فاختلفا فطلقها، وكان ذلك وقت الشتاء الذي يكثر فيه المرعى ويدر اللبن.

وتزوجت المرأة بعد طلاقها شاباً جميلاً، لكنه غير ثري فلما جاء الصيف احتاجت إلى اللبن، ولم يكن للبن وجود في ذلك الوقت إلا عند زوجها الأول، فبعثت إليه ترجو بعضاً منه فأبى وصاح قائلاً: (في الصيف ضيعتِ اللبن).

لذلك، فلو أن أمة نزل بها وباء فنهضت له وأسرعت في القضاء عليه، أو دهمها عدو فهبت له وتمكنت من رده، أو كان يرجى النصر بعد الهزيمة أو الغنى بعد الفقر، أو الصحة بعد المرض، أو المودة بعد الخصام، فحينذاك يقال: (سحابة صيف عن قليل تقشع).

ولو أسرف رجل في ماله ثم بحث عنه وقت العجز فلم يجده، أو أسرف في صحته ثم جاء يطلبها وقت الشيخوخة أو لم يسمع النصح في وقته ثم راح ينشده بعد فوات الوقت قيل له ولأمثاله: (في الصيف ضيعت اللبن).

الوقفة الخامسة: الأدب والصيف

قيل في الصيف مدحاً: الصيف خفيف المؤنة، جليل المعونة، كثير النفع، قليل الضرّ، وهو أم الحب والرياحين وبنات البساتين، وراحة الفقراء والمساكين، وستر الضعفاء والمتخملين، والعون على عبادة رب العالمين، وطبعه طبع الشباب الذي هو باكورة الحياة، كما ان الشتاء طبعه طبع الهرم الذي هو باكورة العدم.

وقيل في الصيف إنه زمان الكد، لهذا قيل: مَنْ لم يَغُّلُ دماغه صائفاً لم تغلُ قدوره شاتياً. قال أحدهم:

وإن الذي لم يغلُ صيفاً دماغه

وجدّك لا تغلي شتاءً قدورهُ

كذلك مقسوم المعايش في الورى

بسعيٍ ورعيٍ تستبينُ أمورُه

وفي ذمّ الصيف قيل: حرّ الصيف كحد السيف. وكتب بعض الكتاب إلى صديق له: أشكو إليك صيفاً لا يطيب معه عيش ولا ينفع به ثلج ولا خيش.

وكتب آخر: كيف لي بالحركة وقد قوي سلطان الحرّ وفرش بساط الجمر، ولا سيما وفيه الهاجرة التي هي كقلب المهجور والتنور المسجور.

وكتب آخر: لا مرحباً بالصيف من ضيف، فهو عون على الحيات والعقارب، وأم الذباب والخنافس، وظئر البَق الذي هو آفة الخلق.

الوقفة السادسة: الشعر والصيف

قال أحدهم:

يتمنّى المرء في الصيف الشتاء

فإذا جاء الشتاء أنكره

فهو لا يرضى بحال واحد

قتل الإنسان ما أكفره

وقال آخر:

رُبّ يومٍ هواؤه يتلظّى

فيحاكي فؤاد صبّ متيّمْ

قلت إذ خدّ حرُّه حرّ وجهي

ربنا اصرف عنا عذاب جهنّمْ

وقال ثالث:

من كل سائلةِ الخرطوم طاغيةٍ

لا يحجبُ السُّجف مسراها ولا الكل

طافوا علينا وحرّ الصيف يطبخنا

حتى إذا نضجت أجسامنا أكلوا

وقال رابع مُستظرفاً:

رأى الصيف مكتوباً على باب داره

فصحّفه ضيفاً فقام إلى السيفِ

فقلنا له خيراً فظنّ بأننا

نقول له خُبزاً فمات من الخوفِ

الوقفة السابعة: الصبر والصيف

إن مما يؤمر بالصبر فيه على حرّ الشمس، النفر للجهاد في الصيف، كما قال تعالى عن المنافقين: (وَقَالُواْ لاَ تَنفِرُواْ فِي الْحَرِّ قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا لَّوْ كَانُوا يَفْقَهُونَ).

وكذلك في المشي إلى المساجد للجُمع والجماعات وشهود الجنائز ونحوها من الطاعات والجلوس في الشمس لانتظار ذلك حيث لا يوجد ظل.

خرج رجل من السلف إلى الجمعة فوجد الناس قد سبقوه إلى الظل فقعد في الشمس فناداه رجل من الظل أن يدخل إليه فأبى أن يتخطى الناس لذلك ثم تلا: (وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ).

الوقفة الثامنة: الصوم والصيف

إن مما يضاعف ثوابه في شدة الحرّ من الطاعات الصيام لما فيه من ظمأ الهواجر؛ ولهذا كان معاذ بن جبل - رضي الله عنه - عند احتضاره يتأسف على ما يفوته من ظمأ الهواجر، وكذلك غيره من السلف.

وقد ورد أن الصدِّيق - رضي الله عنه - كان يصوم في الصيف ويفطر في الشتاء. وقد وصّى الفاروق - رضي الله عنه - عند موته ابنه عبدالله فقال له: عليك بالصيام في شدة الحر في الصيف.


 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

رأي الجزيرة

صفحات العدد