حينما تستعرض أسواق الخضار والفاكهة في مدينة الرياض فإنك لن تجد مناصا من أن تقف إجلالا لسوق عتيقة يتوسط المدينة، ويرمز بذاته إلى المستوى الذي تعيشه هذه المدينة في هذا المجال المهم، ولا شك أنك وأنت تنظر إليه أو تقف بين جنباته فإنك سوف تستشعر معنى قرية آمنة يأتيها رزقها رغدا من كل مكان، حينما تنظر إلى تلك البرادات التي جابت بقاع الأرض فلم تقنع إلا أن تصطف في طابور طويل كي تصل إلى هذا السوق فسوف تشعر بعظمته، وحينما تمر ببوابته الغربية صباحا أو مساء فإنك ستشده لكثرة تلك السيارات التي تنوء بحملها فإذا ما حطت رحالها فيه وأنزلت حمولتها خرجت جذلة منه ثم ما تلبث أن تعود إليه وهي لا تكاد أن تقف عن الذهاب والجيئة. |
ثم ما أن تدخل بوابته تلك إلا وتتقاذفك المناظر البهية فعن يمينك سوق يختص بنوع وعن يسارك سوق يختص بنوع آخر، وكلما قطعت سيرا وقعت عيناك على جديد لم تره. |
ذلكم هو سوق عتيقة للخضار والفاكهة السوق المركزي لمدينة الرياض، هو محط النظر وبغية طالب الرزق، وهو الموئل لكل من أراد أن يهنأ بفاكهة وأبا وعنب وقضب، وهو المصدر الذي يثق فيه الناس، فما أن يقول أحدهم قد اشتريته من سوق عتيقة، حتى يتمثل لدى السامع أن تلك السلعة طازجة قطفت للتو من شجرتها... |
كل الأسواق عالة عليه وهن تبع له وفرع عنه، وهو الرئيس الذي لا يعقبه سؤال ولا يستصحبه شك، أضحى سوق عتيقة رحلة شتاء طلاب الرزق ورحلة صيفهم فكم من فقير اغتنى من سيبه، وكم من غنى بات مطمئنا وحنجرته تشق عنان السماء مناديا إلى بضاعته... إن سوق عتيقة ذو تاريخ باسق يراه الناس فلا يسعهم إلا أن يفخروا وهم ينظرون إليه أو يتسوقون فيه.. |
لقد كنت وأنا أدخل إلى هذا السوق أشعر بفضل أمانة مدينة الرياض على هذا السوق حيث جعلت له منزلة خاصة وتنظيما دقيقا، فما أن يلجه المتسوق حتى يقضي حاجته بيسر وسهولة، فقد عمدت البلدية فصنفت السوق أصنافا عديدة وقسمته تقسيما بديعا، وجعلت الرقابة عليه صارمة حازمة، وكأن شعارها في ذلك الوقت: |
قضينا بأن نسقيك كأس كرامة |
وأنك في النعماء لا تتحول |
وأن رضاك اليوم أبلغ منية |
وبسمتك الغرا شعار ومأمل |
هكذا دأبت البلدية حرسها الله في عقود مضت.... |
أما اليوم فإن من يقصد سوق عتيقة للخضار والفواكه فإنه سيجد تغيرا غريبا وينبئ بشر عظيم... |
منذ ما يزيد على الثلاثة أشهر وأنا أرقب تطور أمر قبيح في سوقنا العزيز، لقد كنت أظنه أمرا عارضا يمر وينتهي إلا أني بت أراه اليوم خطرا مداهما.. |
هذا الخطر القادم يتمثل في أولئك الأطفال الذين أكثرهم من الجنسية الأفريقية وهم يجرون عربات التحميل على اختلاف مقاساتها... |
إن من يدخل سوق عتيقة للخضار هذه الأيام لسوف يشعر بالفوضى العارمة التي أتت على كل شيء، وسببها هؤلاء الحمالون غير النظاميين... |
فالمتسوق حينما يقدم إلى السوق لكي يقضي حوائجه تصادفه كثير من المضايقات، بدءا من كثرة العربات التي باتت تضيق الطرق في السوق حتى لم تعد تستطيع المشي بسهولة، علما بأن الممرات ضيقة بين محلات الخضار والفاكهة، أحيانا تجد أنك مضطر إلى أن تقف في محلك ثلاث دقائق كي تتزحزح أرتال من تلك العربات فتجد موطئا لقدمك، وربما وأنت تسير في ردهات السوق تفجؤك عربة من خلفك قد اصطدت بعقبك فأدمته، فإذا ما نظرت إلى من صنع هذه الفعلة الشنيعة، إذا هو طفل أسود لا تعلم أأنجبه الإسفلت أم أنجب الإسفلت، تجده قد مد يديه ووقف على أطراف قدميه كي يصل إلى مقبض عربته، ثم هو يدفعها دفعا قويا كي تتحرك ولن ينظر إلى من أمامه، وربما لن يعلم بوجود زبون إلا إذا اصطدمت بآخرين... فإذا ما نظرت إليه تريد أن تنهره وجدته في شغل شاغل عنك فهو ينوء بعربته يريد دفعها كي تندفع، فلا تجد إلا أن تتميز من الغيظ وتذهب وتدعه وربما تذهب وتدع السوق برمته.. |
وربما وأنت مستغرق في تفحص فاكهة أو خضرة تجد من يجذبك من كمك جذبا قويا، فإذا ما التفت إليه وجدته أحد هؤلاء الحمالين الصغار السود وهو يقول لك (حمالي ؟ ؟) فترد عليه عليه (لا)، فما أن تنتهي منه إلا وكمك الآخر يجذب مرة أخرى فإذا هو آخر.... وهكذا حتى لا تكاد تنتهي.. وربما جاءك يقول: (حمالي يا عم) فإذا ما قلت له (لا أريد حمالا) بدأ يستعطفك بعبارات تعلمها جيدا من والدته التي أتقنت ذلك في أبواب المساجد، كأن يقول لك (الله يخليك حمالي بريالين الله يخليلك أولادك ووالدينك) ثم هو يبدأ في ذلك فلا يكف حتى يجد غيرك فيلتفت إليه.. |
لقد أصبحت أتحاشى أن ادخل إلى السوق في الأوقات التي يقل فيها المرتادون، وما ذاك إلا لتجربة خضتها فأنا أقطع عهدا على أن أنتقي يوم الزحام فأذهب للتسوق... لقد ذهبت إلى السوق بعد صلاة العشاء في يوم الإثنين ولم يكد من متسوق إلا أنا، فأضحيت قنصا يطمع فيه أولئك، فكلما انتهيت من فرقة وقعت في أخرى حتى لقد وجدت معاناة بالغة سارعت بالفرار ولم ينجني منهم إلا فراري... |
لقد أصبحوا وباء في سوقنا، يتذمر منهم الجميع، المتسوقون والباعة والبلدية. |
حينما رأيت الأمر بلغ هذا المبلغ النشاز، سألت الباعة عن هؤلاء الصبية، فكأنني نكأت لهم جراحا غائرة، لقد بدأ كل منهم يروي قصة مريرة خاضها معهم... |
أما أحدهم فيقول: نعاني منهم في أوقات الصلوات فإذا ما أذن المؤذن تبادرنا إلى الصلاة بعد أن نغطي أمتعتنا بملاءة أو نحوها، إلا أننا نجد بضاعتنا بعد الصلاة إما مسروقة أو منثورة على الأرض، فإن كانت سلعتك غالية سرقوها، وإن كانت رخيصة أفسدوها.. |
وأحدهم قال لي: في يومي الخميس والجمعة نعاني منهم معاناة مريرة، ففي الخميس الماضي بعد المغرب تجمع أكثر من خمسين منهم في كبرة الفواكة، وقد جعلنا نحن الباعة سطلا نجمع فيه الثمار الفاسدة، فما كان من هؤلاء الصبية إلا أن انقسموا إلى فريقين اثنين وجعلوا سطلنا بينهم وجعلوا يتقاذفون بما فيه ويقذفون المارة حتى لقد أصيب خلق كثير من الناس.. |
هذا ومأساة باعة الحبحب تحتاج إلى إفراد موضوع مستقل... وكذلك باعة الورقيات وغيرهم كثير، الكل يشتكي لا أحد يجد للبلدية أو الشرطة عذرا في عدم الحزم مع هؤلاء.. |
توجهت إلى مبنى البلدية في السوق وأخبرتهم عن الفوضى التي يتقلب فيها السوق، فإذا بموظفي البلدية جميعا يصرخون على لسان رجل واحد: ماذا تريدنا أن نفعل، لقد قمنا بمصادرة عرباتهم فتجمع لدينا من عرباتهم ما يربو على الثمانمائة عربة، وقبضنا على أكثرهم فسلمناهم للشرطة، والشرطة أخرجتهم بدعوى أنهم أحداث والأحداث لهم جهة ترعاهم، ثم قالوا لي لقد خاطبنا الشرطة وأمارة مدينة الرياض ومقام وزارة الداخلية فلم نجد تجاوبا ... |
تمعر وجه أحد منسوبي البلدية وقال أتدري أنني كنت في مهمة داخل فلم أسلم منهم لقد قذفوني ببرتقالة فاسدة لم تخطئ وجهي، والآخر يقول: وقعت بينهم معركة حمي فيها الوطيس فلم يجرؤ أحد على أن يفرقهم ، بعد ذلك قام أحدهم وفتح جهاز الحاسب الآلي ليرني كثيرا من الصور التي التقطوها لهؤلاء الصبية وهم يعيثون في الأرض ويقول: هذه الصور مع بيانات كتبناها بعثنا بها إلى الشرطة والأمارة فلم نجد تجاوبا.. |
حينها فقط نفضت يدي وعلمت أن الوضع مأساوي صرف، وأن هذه المشكلة سوف تتفاقم لتصل إلى مراحل لا يمكن بعد ذلك علاجها... |
أخيرا سؤالي: من المسؤول عن هؤلاء الصبية وعن فوضاهم ؟ هل هي البلدية أم الشرطة أم الأمارة ؟ |
أرجو التجاوب السريع واتخاذ اللازم فإن ذلك ينبئ بأخطار عديدة ليس على مرتادي السوق فقط وإنما على المواطنين على وجه العموم.... وشكرا |
- الرياض |
|