Al Jazirah NewsPaper Thursday  07/08/2008 G Issue 13097
الخميس 06 شعبان 1429   العدد  13097
ذكرياتي مع محمود طيبة
سامي البحيري

كان محمود طيبة أول مهندس كهرباء سعودي في تاريخ المملكة العربية السعودية، وقد عرفته وكنت وقتها لم أتعد السبع سنوات من عمري عندما كان يجيء إلى منزلنا في حي مصر القديمة بالقاهرة، حيث كان يحضر لكي يذاكر مع شقيقي المهندس مصطفى البحيري والذي رحل عنا منذ سبعة أشهر، وكان محمود طيبة وشقيقي يدرسان سويا الهندسة الكهربائية بجامعة القاهرة في منتصف الخمسينيات من القرن الماضي.

وأذكر أن والدي رحمه الله الشيخ أحمد البحيري حكى لنا هذه القصة على الأقل مائة مرة!! وهو أن محمود طيبة قد تقدم لخطبة يد أختي ولم تبلغ بعد السادسة عشرة من عمرها، وقال محمود لوالدي وقتها: (إنه لا يملك من حطام الدنيا أي شيء)، فقال له والدي: (إذا مسكت حفنة من تراب الأرض وأعطيتها لي لتحولت ذهبا بفضل أخلاقك وتهذيبك)، وقد كان، وتمت الخطوبة وكان من نصيب شقيقتي حفنة تراب تحولت ذهبا حقيقيا بعد الزواج لما رأت من كرم أخلاقه ونبله واحترامه لزوجته ولمشاعرها واحترام أسرته القريبة والبعيدة.

ثم انتقلنا إلى حي المنيل وهو أرقى درجة من حي مصر القديمة من ناحية الوجاهة الاجتماعية استعدادا لزواج شقيقتي من محمود طيبة، وقد حزنت كثيرا لانتقالنا إلى هذا الحي الجديد والعجيب عليّ (أنا ابن السابعة) وكنت أفتقد أصدقاء الحارة في مصر القديمة كثيراً ولقد ألقيت باللائمة في هذا على شقيقتي وعريسها الوسيم محمود والذي يتحدث بلهجة غريبة عليّ لم أفهم ربعها.

ثم تم الزواج في بيت المنيل واستأجرت شقيقتي وعريسها محمود شقة فوقنا في نفس المنزل، وكان قدر محمود طيبة أن يسكن مع حماته في نفس المنزل!! ولكن أمي رحمها الله كانت تعامله أفضل مما كانت تعاملنا، وكانت دائما تقول لنا: (سي محمود عايش هنا معانا بعيد عن أهله، وإحنا دلوقت أهله). (وكانت أمي لا تناديه إلا ب(سي) محمود).

وكنت طفلا شقيا غاية في الشقاوة (زي فرقع لوز) ولا أستقر على حال، وأعتقد أنني ما زلت هذا الطفل، وكان الجميع يضجون من شقاوتي، وتفتق ذهن محمود طيبة عن فكرة هائلة حيث قال لي: (إذا قعدت ساكت بدون أي شقاوة على هذا الكرسي لمدة نصف ساعة متواصلة سوف أعطيك مكافأة مبلغ ربع جنيه (وكان مبلغ الربع جنيه في منتصف الخمسينيات يشكل ثروة بالنسبة لي) ولم أستطع أن أظل ساكنا على الكرسي لأكثر من عشر دقائق وفشلت في الحصول على تلك المكافأة، وظل محمود طيبة يذكرني بأسلوبه الساخر الجميل عن أنني لم أصمد للتحدي.

وبعد سنة من الزواج رزق الله شقيقتي ومحمود طيبة بفتاة جميلة أسمياها وفاء (وهي الآن الدكتورة وفاء طيبة إستاذ علم النفس وعضو مؤسس في الجمعية الوطنية لحقوق الإنسان)، وكنت قد فقدت شقيقتي الصغري (وفاء) إثر حادث أليم ولم تكن قد تجاوزت الخمس سنوات، فجاءت وفاء طيبة كهدية من السماء ليس فقط لمحمود وشقيقتي ولكن لي أنا شخصيا لأنني كنت قد حزنت حزنا عميقا وأنا ابن الثامنة على فقد شقيقتي وصديقتي وفاء فمنحني الله شقيقة أخرى اسمها وفاء أيضا وما زلنا أصدقاء حتى اليوم.

ثم كان يوما حزينا عندما عرفت أن محمود طيبة سوف يسافر عائداً إلى بلاده حيث يبدأ عمله كمهندس في شركة أرامكو، وقلت لنفسي من هذا الرجل لكي يأخذ شقيقتي الأكبر مني وأيضا يأخذ هدية الله إليّ وفاء ويذهب بهما إلى بلاد بعيدة، ولقد بكيت كثيراً وأنا طفل، وما زلت أبكي عند وداع شقيقتي وأسرتها حتى الآن.

ثم مرت الأيام وتوقف محمود طيبة في القاهرة في طريقه إلى أمريكا لكي يدرس في الجامعة في ولاية بنسلفانيا في مدينة اسمها (بيت لحم) سميت تيمنا بالمدينة الفلسطينية مهد عيسى عليه السلام. وحصل محمود طيبة على بكالوريوس آخر في الهندسة الميكانيكية، وعندما عاد من أمريكا أحضرا لي لعبة ما زلت أذكرها حتى اليوم وهي صاروخ يعمل بضغط الماء، وكنت سعيداً أيما سعادة بتلك اللعبة وأخذت (أتمنظر) بها على أصدقاء الشارع وخاصة عندما كان ينطلق الصاروخ بدفع الماء إلى ارتفاع أعلى من كل عمارات المنطقة.

وأول زيارة لي لمدينة الرياض كانت عام 1975 بعد أن ساعدني محمود طيبة في الحصول على وظيفة مهندس بشركة مقاولات بالرياض، وأصر محمود طيبة بكرمه غير العادي أن أعيش في بيته في مدينة الرياض بمنطقة عليشة، وأصبحت جزءا من أسرة محمود طيبة وخفف هذا عني كثيراً شعور الغربة عن بلدي مصر وتعرفت أكثر على محمود طيبة وعلى إخوته الذين كانوا يتناوبون سهرة عشاء في منزل أحد الأشقاء مرة كل ليلة خميس، وكان محمود طيبة حريصا أشد الحرص على هذا التقليد واستمر التقليد ولم يتوقف إلا بعد انتقال كل الإخوة إلى المنطقة الغربية وظل محمود طيبة في الرياض.

وكان محمود طيبة يعيش في منزل عليشة وكان منزلنا جميلا ومتواضعا بكل المقاييس، وكان لا يهتم كثيراً بأن هناك الكثير من مرؤوسيه من يملكون بيوتا أكبر من بيته أو سيارات أكثر فخامة من سيارته، فقد كان أكثر تواضعا من أي شخص قابلته في حياتي. وفي يوم قرر محمود طيبة بناء غرفة إضافية في البيت لكي يستقبل فيها ضيوفه، وقد قمت ببناء تلك الغرفة بصفتي أعمل في شركة مقاولات، وكان لمحمود طيبة صديق سوري كلما يحضر إلى المنزل ويراني أشرف على الغرفة الإضافية، يقول لي: (من الواضح أنك المهندس المقيم حرفيا) بصفتي كنت مقيما بالفعل في المنزل. وكان كرم محمود طيبة معي لا يوصف وهناك الكثير من المواقف التي لا أستطيع أن أذكرها لأنه كان يكره الدعاية، وكان يرى أن الدعاية تفسد الإحسان والمعروف.

والحقيقة أن صدمتي في فقدان محمود طيبة لا توصف فقد فقدت أخا وصديقا وأبا وسندا حقيقيا ألجأ إليه وقت الشدة ووقت الفرح، ولا أستطيع أن أصف شعور الحزن لدى العديد من الأسر في كثير من بلدان المسلمين والذين شملهم محمود طيبة برعايته الاجتماعية والمالية وكان حريصا أشد الحرص على أن يتم هذا في كتمان وسرية كاملة حرصا على كرامة تلك الأسر من جهة وتنفيذا لتعاليم الرسول الكريم من أن شماله كانت لا تدرك ما تنفق يمينه.

وحتى الآن لا أصدق أنني فقدت شقيقين في أقل من عام واحد، مصطفى البحيري ومحمود طيبه الذي شاهدته في الصيف الماضي وكنا نمزح كعادتنا وكان كريما كعادته محبا للناس كعادته، أنني أتخيل أنه سوف سيكون في استقبالي كعادته بوجهه البشوش وابتسامته الصادقة عندما أسافر إلى الرياض هذا الأسبوع.

ومن أجمل ذكرياتي مع محمود طيبة (وكنت في الثامنة من عمري) أن أول مرة في حياتي شاهدت فيها مسرحية كانت عندما ذهبت معه ومع شقيقتي إلى مسرح دار الأوبرا المصرية لكي نشاهد مسرحية (زقاق المدق) المأخوذة عن رواية نجيب محفوظ، وحجز لنا محمود طيبة (بنوار) وكنا وحدنا وأخذت أتطلع إلى هذا المسرح ودار الأوبرا الجميلة التي بناها الخديو إسماعيل في القرن التاسع عشر لمناسبة افتتاح قناة السويس، وكنت مبهورا بالجمال المعماري وبالتمثيل، وما زلت أذكر منظر النهاية وحميدة بطلة المسرحية ملقاة على الأرض بعد إطلاق الرصاص عليها، والشيخ الدرويش (مدرس اللغة الإنجليزية السابق) يجلس بجوارها وهو يقول: لكل شيء نهاية، ونهاية باللغة الإنجليزية تعنى End ، E. N. D. ثم يسدل الستار الأخير.

الولايات المتحدة الأمريكية





 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

رأي الجزيرة

صفحات العدد