Al Jazirah NewsPaper Saturday  09/08/2008 G Issue 13099
السبت 08 شعبان 1429   العدد  13099
رفعة منزلة علماء الشريعة
د. سعد بن ناصر أبو حبيب الشثري

الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين أما بعد: فقد أفزعتني عدد من اللهجات التطاولية في عدد من الكتابات الصحفية التي تنبثق من خلط الأوراق واستعمال المصطلحات المعهودة في غير محلها ووضع أحكام جازمة بناء على تصور غير صحيح ولا مطابق للواقع ولا للحقائق مما يظن المرء معه أنها صدرت من سوء فهم لا سوء قصد،

ومن تلك الكتابات ما نُشر في جريدة الجزيرة بعددها الصادر في أول شعبان من عام تسع وعشرين وألف بعنوان {وماذا بعد أفول السلطة الدينية؟}، فإني لما قرأت هذا المقال أشفقت على قارئه واستغفرت لكاتبه لما فيه من تخبطات عديدة واتهامات للآخرين شنيعة بدون شهود ولا بينات. فإن الكاتب - وفقه الله - لخيري الدنيا والآخرة أجاد في وصفه لبعض الكتاب بأنهم قد تجاوزوا الحدود المعقولة في نقد الفكر الديني {حسب تعبيره}، وفي انتقاده للمواقف الإقصائية ضد الفكر الديني، كما أجاد في انتقاد بعض الكتاب الذين يرون أن لا فرق بين علماء الشريعة وبين الإرهابيين والجهاديين، ومع ذلك فقد وجد لدى الكاتب العديد من الهفوات. ورغبة في تجلية ذلك فإني أبين عدداً من المصطلحات التي غمض فهمها على كاتب المقال على جهة التمثيل لا على جهة الاستقصاء.

أولها: مصطلح السلطة الدينية حيث أراد الكاتب به علماء الشريعة، وهذا فهم خاطئ؛ لأن هذا المصطلح يطلق بمعنيين:

أولهما: سلطة التشريع، وهذه لله - عز وجل - وحده، ولا يجوز لأحد أن ينازع رب العزة والجلال في ذلك كما قال تعالى: {إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلّهِ}، وقال: {أَمْ لَهُمْ شُرَكَاء شَرَعُوا لَهُم مِّنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَن بِهِ اللَّهُ}، وقال سبحانه: {ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِّنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاء الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ}، ومن هنا نعرف خطأ الكاتب في قوله: {كرسي المشرع الفكري}.

والمعنى الثاني: سلطة حماية الدين والذود عن حياضه، وهذه السلطة بأيدي ولاة الأمر، قال الماوردي في المهام المناطة بالإمام: {والذي يلزمه من الأمور العامة عشرة أشياء أحدها حفظ الدين على أصوله المستقرة وما أجمع عليه سلف الأمة فإن نجم مبتدع أو زاغ ذو شبهة أوضح له الحجة وبين له الصواب وأخذه بما يلزمه من الحقوق والحدود ليكون الدين محروساً من خلل، والأمة ممنوعة من زلل} {الأحكام السلطانية 1-16} وانظر {كشاف القناع 6-160}، وشاهد هذا في كتاب الله قوله سبحانه: {يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُم بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ}، وشاهده من السنة قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: {كلكم راع ومسؤول عن رعيته فالإمام راع ومسؤول عن رعيته} وقوله: {الإمام جُنَّة يُتقى به ويقاتل من خلفه}.

وعلى هذا المنطلق سارت الدولة السعودية الموفقة من أول أيامها من عهد الإمام محمد بن سعود عندما بايعه الشيخ محمد بن عبدالوهاب والمسلمون من ورائهم، على نصرته في حماية العقيدة ونشر الإسلام ونبذ الخرافات. وكان أول بيان سياسي من الإمام الصالح والقائد الهمام الملك عبدالعزيز - رحمه الله - هو قوله: {الملك لله ثم لعبدالعزيز}؛ ولذلك أيده كل ذي دين في إقامة هذه الدولة التي ننعم بخيراتها، وعلى خطى ذلك الإمام الموفق سار خادم الحرمين الشريفين الملك عبدالله بن عبدالعزيز حيث احتوى أول بيان له التأكيد على التزامه بالإسلام وجعل دستوره القرآن؛ مما أبهج النفوس المؤمنة في مشارق الأرض ومغاربها، وجعل ألسنتهم تلهج له بالدعاء والثناء، واستمر نهجه - وفقه الله - على ذلك؛ فقد كرر هذا المعنى مراراً، ومن ذلك كلمته الموفقة - أيده الله - في افتتاح أعمال السنة الثانية من الدورة الرابعة لمجلس الشورى؛ حيث قال: {لقد أعز الله تعالى هذه الدولة؛ لأنها أعزت دين الله، وسارت على نهج ثابت يتوارثه خلف عن سلف، وسوف تبقى عزيزة لا يضرها من عاداها ما دامت ترفع راية التوحيد وتحكم شرع الله}.

وقد أكد على ذلك سمو ولي العهد وعدد من المسؤولين في مناسبات مختلفة، وهذا المعنى قد أكد عليه النظام الأساسي للحكم في المملكة في عدد من مواده؛ ففي المادة الأولى: {المملكة العربية السعودية دولة عربية إسلامية ذات سيادة تامة دينها الإسلام ودستورها كتاب الله تعالى وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم} وفي المادة السادسة: {يبايع المواطنون الملك على كتاب الله وسنة رسوله وعلى السمع والطاعة في العسر واليسر والمنشط والمكره}، وفي المادة السابعة: {يُستمد الحكم في المملكة العربية السعودية سلطته من كتاب الله وسنة رسوله.. وهما الحاكمان على هذا النظام وجميع أنظمة الدولة}، وفي المادة الخامسة والخمسين: {يقوم الملك بسياسة الأمة سياسة شرعية طبقاً لأحكام الإسلام ويشرف على تطبيق الشريعة الإسلامية}، وولي الأمر يجعل له أعواناً يعينونه على القيام بهذه المهمة الشريفة من القضاة والولاة ورجال الحسبة وغيرهم ممن لا يستمد سلطته إلا من سلطة ولي الأمر.

ومما سبق نعرف خطأ الكاتب حين قال: {في دولة تأسست على ثنائية الإمام والشيخ أو السلطة والشريعة}؛ لأن هذه الدولة قامت على وحدة واحدة، وعلى تكامل وتعاضد، لا على منازعة ومواجهة، كما ذكر الكاتب بعد ذلك حين قال: {وأصبحت المواجهة في عقر دارهما}.

ثانيها: مصطلح الفكر الديني. أبدى الكاتب وأعاد في استعمال هذا اللفظ ولم يوضح مقصوده بهذه الكلمة بل يفهم من كلام الكاتب أنه يدخل في ذلك جميع العقائد المنحرفة حيث قال: {خرجت المواقف الإقصائية ضد الفكر الديني باتجاهاته التقليدية والصحوية والجهادية}، ومنشأ هذا عدم التمييز بين المعاني التي يطلق عليها هذا اللفظ، وذلك أن هذا اللفظ يستعمل عند المتكلمين بمعنيين:

أحدهما: الأحكام الشرعية الواردة في الكتاب والسنة، ومثل هذا لا يجوز الاعتراض عليه ولا نقده ولا الضجر والانزعاج منه؛ قال تعالى: {فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيمًا}، ولقوله سبحانه: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُّبِينًا}.

والمعنى الثاني: الاجتهادات الفقهية التي يمكن أن تكون محلاً للاختلاف، وإن كان هذا الاختلاف لا يسوغ الشقاق، وإنما الواجب في مثل هذا هو الرد إلى النصوص الشرعية كما قال تعالى: {وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِن شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ}، وقال: {فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً}؛ وذلك لأن الحق في المسائل الاختلافية ينحصر في أحد الأقوال وما عداه يكون مخالفاً للصواب لقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: {إذا اجتهد الحاكم فأصاب فله أجران، وإذا اجتهد فأخطأ فله أجر واحد}.

فبين أن المجتهدين يصيبون ويخطئون؛ مما يدل على أن الحق في أحد الأقوال ومن عداه يكون مخطئاً، وقد فصلت في أدلة ذلك في كتابي {القطع والظن} في أكثر من خمسين صفحة، والنصوص الشرعية لا تدل إلا على صواب أحد الأقوال؛ ومن هنا نعلم أن الكاتب - وفقه الله - قد أخطأ حين قال: {ومما يزيد من شدة الخلاف بين كافة الأطراف أن الدين الإسلامي كيان مقدس يحمل في داخله شتى المواقف المحتملة في نظريات الصراع الفكري والسياسي؛ فالمعارضة والموالاة تجدان لهما ما يعزز مواقفهم في الإرث الإسلامي}؛ فخطأ هذه الطوائف في فهم النصوص لا يصح أن ينسب إلى دين الإسلام.

وهناك مصطلحات عديدة استخدمها الكاتب ورتب عليها تصورات وأحكاماً مع أن استخدامه لها في غير المعهود الشرعي واللغوي والعرفي منها؛ فيصعب عليَّ استيعاب هذه المصطلحات؛ لكثرتها مع أن مقالة الكاتب ليست بذاك الطول. وفي هذا المقام أنبه إلى ثلاث قضايا تطرق إليها الباحث تعتبر قضايا جوهرية ولها آثارها.

أولى هذه القضايا محاولة بعض الكتاب تفريق المجتمع وجعله طوائف متناحرة، ومن ذلك قول الكاتب: {وأصبحت المواجهة في عقر دارهما بين مثقفيها وعلمائها}، وقوله: {وهو ما يجعل الصدام بينهما متوقعاً}، وقوله: {تصاعد وتيرة الخلاف بين الهيئات الدينية وبعض فئات المجتمع}، وقوله: {فالعلماء والمثقفون دأبوا على لعبة التنافس..}، وقوله: {ويمكن أن نقول إن حالة الوفاق المؤقتة بين التيار الديني التقليدي وبين بعض رموز التيار الثقافي الليبرالي - إن صح التعبير - ضد الإرهاب الديني سقطت}، وهذا التوجه يخالف مقاصد الشريعة التي تسعى إلى جعل المجتمع لُحمة واحدة؛ قال تعالى: {وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُواْ وَاذْكُرُواْ نِعْمَةَ اللّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاء فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا}، وفي الحديث: {المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضاً}، و{مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم كمثل الجسد الواحد}.

ولئن كان بعض الكتاب ممن ينتسب إلى الثقافة يظن ظناً خاطئاً أن هناك عداوة بينهم وبين علماء الشريعة، فإن العلماء إنما يرون هؤلاء الكتاب بمثابة الأبناء الذين يشفقون عليهم، ويرون أنهم بحاجة إلى التوجيه؛ لما يظنون أنه يحقق مصلحتهم في الدنيا والآخرة. وبعض الأبناء ينفر من النصائح التي يسديها إليه والده، ويظن أن في ذلك تنقيصاً من منزلته؛ لأنه يظن أنه قد كبُر، ووصل إلى مرحلة يستقل فيها برأيه لا يحتاج معها إلى نصح والده وتوجيهه.والقضية الثانية تتعلق بالمصالح حيث يظن بعض الكتاب أن المصالح الشخصية تتعارض مع المصالح العامة أو المصالح الوطنية مع خطئهم في طُرق تحصيل المصالح وظن بعضهم أن بعض الأحكام الشرعية تتعارض مع المصلحة، وهو ما عبر عنه الكاتب بقوله: {قد يكون التفسير غير البريء لما يحدث أن المجتمع ظهرت فيه تيارات تبحث عن مصالحها بصورة مباشرة وبلا قناع، ولم تعد المصالح تختزل فقط في مصلحة الدين أو الدولة التي ترفع راية الإسلام الحنيف}، وقوله: {خرج في عصر الثورة الحديث تيارات تهتم بمصالحها الخاصة، وتدافع عن مكتسباتها تحت شعارات مختلفة، وقد يرميها بعضهم بالانتهازية؛ لأنها تبحث عن مصالحها الخاصة، ولكن الطبيعي أن يبحث الإنسان عن مصالحه، وأن لا يتجمد داخل جهله وتخلفه التاريخي}، وهذه النظرة القاصرة التي تفترض التعارض بين المصالح الخاصة والعامة تخالف واقع الحال؛ فهي بمثابة مَن ظن أن أخذ الرشوة يحقق مصلحة خاصة تعارض المصلحة العامة؛ فلما أخذ الرشوة انتشر هذا المرض في المجتمع؛ فأصبح ما يعطيه بطريق الرشوة أكثر مما يأخذه، ومثله كمثل أولئك الذين حاولوا أن يقفوا في وجه توحيد البلاد على عهد الملك عبدالعزيز لظنهم أن ذلك يخالف مصالحهم الشخصية، لكنهم من فضل الله لم يتمكنوا من ذلك؛ فكان ما حصلوه من توحيد البلاد واستقرارها أعظم مما فات عليهم؛ مما يدل على أن الدعوة إلى تحصيل المصالح الخاصة بتفويت المصالح العامة التي يدعو إليها البعض تفوت بها المصالح الخاصة والعامة. هذا من جهة، ومن جهة أخرى لا بدَّ أن يُعلم أن المصالح الحقيقية إنما تحصل بالعمل على وفق الشرع الذي جاء بجلب المصالح وتكميلها ودرء المفاسد وتقليلها؛ ولذلك نجد جلياً أن من عمل بالشرع تتابعت عليه الخيرات وتحققت له المصالح الدنيوية والأخروية، كما قال تعالى: {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ}، وقوله سبحانه: {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللّهِ الَّتِيَ أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالْطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِي لِلَّذِينَ آمَنُواْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ}، ومن هنا قال تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِينًا}؛ فإتمام النعمة يحصل بالتمسك بهذا الدين الكامل، وقال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ}، وشواهد هذه في تاريخ الأمة كثيرة متعددة؛ فقد كان العرب قبل الإسلام في أحوال ضعيفة من فقر وأمراض وتفرق وحروب في زمن لا يلتفت العالم إليهم زهداً في أحوالهم؛ فلما دخلوا في دين الله تتابعت عليهم النعمة وتغيرت أحوالهم تغيراً جذرياً، وأصبح لهم حضارة عظيمة ودولة رائدة، وكلما ابتعدت عن دينها ضعفت وتمكن منهم أعداؤهم، فإذا جاء المصلحون عادوا بالأمة إلى تعاليم رب العالمين؛ فعادت إليهم تلك المكتسبات، ومن أقرب تلك الشواهد ما قام به القائد الهمام الملك عبدالعزيز - رحمه الله - حيث كانت البلاد تعيش حالة من الاقتتال والبغضاء والفقر المدقع، حتى لا يجد الإنسان ما يملأ به بطنه، ولا ما يستر بدنه، ولا ما يتمكن به من الانتقال من بلد إلى آخر من الركوبات، فأبدل الله أحوالنا وأصبحنا أمة واحدة لها مكانتها على كافة الأصعدة، وننعم بالخيرات العظيمة في ملابسنا ومراكبنا ومآكلنا ومساكننا وكافة أمورنا، كأننا قد عنينا بقول الله عز وجل: {وَاذْكُرُواْ نِعْمَةَ اللّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاء فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا}، وبقوله: {وَاذْكُرُواْ إِذْ أَنتُمْ قَلِيلٌ مُّسْتَضْعَفُونَ فِي الأَرْضِ تَخَافُونَ أَن يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ فَآوَاكُمْ وَأَيَّدَكُم بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ}، ومع تتابع قوى مختلفة على النيل من هذه البلاد إلا أن الله يسلمنا من شرورهم كأننا عُنينا بقوله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اذْكُرُواْ نِعْمَتَ اللّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ هَمَّ قَوْمٌ أَن يَبْسُطُواْ إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ فَكَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنكُمْ}، وما ذاك إلا لتمسك هذه البلاد بتعاليم الإسلام الحنيف الذي لا يُخشى علينا من أي محاولات عدائية ما دمنا متمسكين به.

والقضية الثالثة: تتعلق بمكانة علماء الشريعة، والتي تعرض لها الكاتب في مواطن مختلفة في بحثه حيث يقول: {إننا دخلنا في مرحلة جديدة تتميز بالضجر والانزعاج من سلطة الفكر الديني التقليدي}، وقوله: {لكن ما يحدث في الوقت الحاضر من أفول للسلطة الدينية لا يمكن التنبؤ بما سيحدث من ورائه من تبعات؛ فالأمر تجاوز بالتأكيد حدوداً لا يمكن على الإطلاق الرجوع إليها. والسلطة الدينية الحالية - إن صح التعبير - لم تعد سلطة، وأصبحت في موقف أضعف بكثير مما كانت عليه من قوة وتأثير على الدولة والمجتمع في العقود الماضية}، بل قال الكاتب: {لا بدَّ من التفكير في إيجاد بديل لهذا الفراغ السلطوي التشريعي}، واتهم العلماء بتجاوز المصالح العامة إلى المصالح الخاصة بقوله: {دائماً ما يظهر الحرص على المصالح والمنافع الخاصة بين سطور المثقف أو فتاوى الفقيه}، وإقرار الكاتب على نفسه وزملائه يخالف دعواه على العلماء؛ لأن الإقرار مقبول بلا حاجة إلى دليل بينما الدعوى لا تقبل إلا بالبينات والبراهين.

ولا شك أن من مقاصد الشرع رفع مكانة العلماء كما قال تعالى: {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ}، وقال: {يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ}، فكل محاولة لإنقاص درجتهم فإنها تُجعل من مصادمة مقاصد الشرع.ثم إن الناظر إلى واقع الناس وأحوال المجتمع يجد أنهم يثقون بعلماء الشرع ويرجعون إليهم استجابة لأمر الله تعالى في قوله: {فَاسْأَلُواْ أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ}، وقوله: {وَإِذَا جَاءهُمْ أَمْرٌ مِّنَ الأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُواْ بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُوْلِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنبِطُونَهُ مِنْهُمْ}، وقوله: {وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنفِرُواْ كَآفَّةً فَلَوْلاَ نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَآئِفَةٌ لِّيَتَفَقَّهُواْ فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُواْ قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُواْ إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ}. وعلماء الشرع بشر كغيرهم تضعف نفوسهم في بعض المواطن ولكن إذا قورن ذلك لديهم بما لدى غيرهم وجدنا أن النسبة في ذلك متفاوتة ومختلفة الدرجة اختلافاً شديداً؛ ولذلك وصفهم الله تعالى بقوله: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاء}، ثم إن الناظر إلى الجهود العظيمة التي يبذلها علماء الشرع لا يمكن أن يبخسهم مكانتهم أو يقلل من درجتهم؛ فإليهم المرجع في تنظيم علاقة العبد بربه إذا أشكل عليه شيء من أحكام صلاته أو دعائه أو صيامه أو حجه أو غير ذلك، ويفزع إليهم الناس في السؤال عن أحكام بيعهم وشرائهم بما يضمن سلامتهم من الوقوع في الحرام، وجهودهم مشهودة وملحوظة في إبعاد الأسر عن المشاكل والخلافات وإبعاد المجتمع عن الشقاق والنزاعات وفي تحذير الأمة من الخمور والمخدرات، وما أعظم أثرهم في نفسيات كثير من أفراد المجتمع في إبعاد الوساوس عنهم والاضطرابات. وأما وقفتهم الشجاعة في محاربة التطرف والإرهاب ومواجهة أفكار أصحابه بفكر نير وخطاب مقنع فمما لا يمكن إنكاره إلا على جهة العناد، ومن قارن بين طريقة هذه البلاد في محاربة ذلك من خلال تضافر عطاء العلماء مع الجهود الأمنية وبين بقية البلدان الأخرى من جهة إبعاد البلاد عن آثار الفكر التفكيري فإنه لا بدَّ أن يُقر بأثر كل من الأجهزة الأمنية وجهود العلماء؛ ولهذا جاءت النصوص النبوية بالرفع من شأن العلماء {لفقيه واحد أشد على الشيطان من ألف عابد}، {فضل العالِم على العابد كفضل القمر ليلة البدر على سائر الكواكب وكفضلي على أدناكم}.ومع محاولات بعضهم التنقيص من منزلة العلماء إلا أن جهودهم باءت بالإحباط، ومحاولاتهم مُنيت بالفشل، وأسأل الله - عز وجل - للجميع التوفيق والهداية.. وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.

عضو هيئة كبار العلماء
وعضو اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والافتاء



 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

رأي الجزيرة

صفحات العدد