الحمد لله الذي لا يحمد على مكروه سواه، والصلاة والسلام على أشرف خلقه المبعوث هدى ورحمة للعالمين. قال الله تعالى: (مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُم مَّن قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا). وقال المصطفى صلى الله عليه وسلم: (من عظمت مصيبته فليتذكر مصيبته فيَّ).. بأبي أنت وأمي يا رسول الله، وقد قيل: |
لعمرك ما الرزية فقد مال |
ولا شاة تموت ولا بعير |
ولكن الرزية فقد حر |
يموت بموته خلق كثير |
أما بعد.. فالأخلاق الكريمة والشمائل الحميدة والسيرة العطرة والسمعة الطيبة عمر ثان للإنسان تخلد اسمه وترفع ذكره فتجعله محموداً على كل لسان مذكوراً بكل خير وموصوفاً بكل مكرمة، فقمة كل شيء وسنامه طاعة الله وتقواه ومخافته ورجاؤه ومحاسبة النفس قبل لقائه، وهذه الصفات نراها في فقيدنا الراحل - رحمه الله - نحسبه كذلك ولا نزكي على الله أحداً. |
ولئن كانت مصيبة الموت من أشد الابتلاء والفاجعة بالفقد عظيمة فإن الرزية تكون أعظم وقعاً وأكبر أثراً حينما تكون في شيخ وقور عابد قانت صائم قائم ذاكر خاشع أجرى الله على يديه نفعاً كثيراً لدينه ولأمته، فلموته ذرفت أحر العبرات وأورثت حسرات وطالت الزفرات من أكباد حرى، وأنات تترى، آه ثم آه ثم آه على جسد طاهر أودعناه التراب، في عصر ذلك اليوم المبارك، وفي أطهر بقعة مباركة.. اللهم أمطر على قبر والدنا محمود طيبة شآبيب العفو والرضوان والأنس والفسحة والسرور. |
ولقد تقطع القلب ألماً وحسرة ولا نملك إلا أن نقول: إن العين لتدمع وإن القلب ليحزن وإنا على فراقك يا أبا هاني لمحزونون، وجاز لنا أن ننعى من إذا خيرنا لفديناه بالمهج والرقاب غير أننا لا نملك إلا الرضا والتسليم والصبر والاحتساب عند رب العالمين، فإن لله ما أخذ وله ما أعطى وكل شيء عنده بأجل مسمى. |
وليس من اليسير أن أتحدث عن فقيدنا الراحل فقيد آل طيبة فقيد أهله ومحبيه وجيرانه وزملائه والد اليتامى والأرامل والفقراء والمحتاجين والمستشفعين معالي الوالد الشيخ المهندس محمود بن عبدالله بن عبدالقادر طيبة نائب رئيس مجلس الشورى، وربما كان غيري أقدر مني على إنصاف هذا الرجل العظيم، فالأقلام تعجز بمدادها في البحث عن اللغة المنتقاة لتسطر بحسن عرض لمن شبَّ ونشأ في طاعة الله ومزاحمة المحسنين الأخيار للمسارعة في فعل الخيرات وكسب رضا الرحمن والحصول على أرفع الدرجات بالآخرة والفوز بالجنان برحمة الله وعفوه، وفقيدنا توّج أعماله بفيض عطاء وصدق ولاء يدفعه حبه لدينه ومليكه ووطنه ومجتمعه. |
فهو لم يعش لنفسه، بل عاش يحمل بصمت نبيل وصبر جميل وبهمة عالية هموم الناس وبؤس الفقراء وأنين المعاقين والمرضى ولوعة اليتامى؛ فوظف وطوّع كل طاقاته المعنوية والمادية ورهن حقوقه البدنية والعائلية والنفسية لغالب أفراد المجتمع على اختلاف شرائحهم ليخفف عنهم محنهم وآلامهم، فيمسح جرحاً أو يخفف حزناً أو يواسي مريضاً ويكفل يتيماً، فكان ملء السمع والبصر، لقد أبكته عيون اليتامى والأرامل والمعاقين والفقراء، إنه الرجل الذي لم يوصد أبواب مكتبه ومنزله بل أبواب قلبه لكل محتاج، إنه الرجل الذي أخذ على عاتقه شحذ همم النفوس الطامحة لرضا الرحمن بمشاركة إخوانه المخلصين في هذا البلد المبارك لتعريفهم ودلهم على بذل الخير والعطاء من خلال رئاسته وعضويته لتلك الجمعيات الرعوية والدعوية والخيرية. |
ومن صفات الزهد والورع التي كان يتحلى بها الفقيد - رحمه الله - منذ عرفته عدم قبوله أي هدية من أشخاص أو أي جهة لهم علاقة عمل مع قطاع الكهرباء، ويطيب لي أن أذكر أحد المواقف المشرفة له وذلك عندما بعث أحد أصحاب المصانع الوطنية إهداء وقال يا أخ فهد أحضر لي هاتفه فلما فرغ من مكالمته التي كان يشكره فيها ويثني عليه ويقول له بكل لطف ونبل: هديتكم مقبولة فجزاكم الله خيراً ولكن اسمحوا لي أنني لم أقبل أي هدية من قبل ولا من بعد إن شاء الله. |
وقد عُرض على الفقيد وجه آخر من وجوه الخير فطلب منه - رحمه الله - أن يتبرع بقيمة هذه الهدية لإحدى الجمعيات الخيرية فكان له ذلك وقد احتذى أحد الزملاء الأفاضل في العمل بما فعله الفقيد رحمه الله. |
وقد ضرب لنا - رحمه الله - أروع الأمثلة في الأمانة الخالصة الصادقة مع الله ثم مع ولي الأمر ثم مع مصالح الدولة ومصالح إخوانه المواطنين. |
|
لقد كفل الفقيد يتيمة في منزله من سن الرضاعة حتى أكملت تعليمها وقد وفقها الله وتزوجت وأقام الفقيد حفل مراسم الزواج بمنزله - رحمه الله - وبعد ذلك كفل يتيمة أخرى من سن الرضاعة وقد رأف الله بحالها حينما جعل الفقيد سبباً في كفالتها حيث إنها معاقة إعاقة كاملة فقام على رعايتها وسخر كل ما من شأنه جلب السعادة لها؛ فقد خصص لها مربية تقوم بشؤونها وقام بعرضها على كثير من المتخصصين في مجال الإعاقة وألحقها بمدرسة جمعية رعاية الأطفال المعاقين (غير مقيمة)، وكانت رعايتهم لها أعظم من أبنائهم، ولا زالت، وقد كان لعضده وساعده الراعية الأولى بمنزله حرمه الكريمة أم هاني وذريتهم البررة - حفظهم الله - خير معينين - بعد الله - ؛ فجزاهم الله خير ما يجزي به كافل اليتيم. |
ومن هنا جاءت فكرة الفقيد وهو يطمح إلى إنشاء جمعية خيرية ترعى الأيتام بجميع أنحاء المملكة وقد وهبه الله هذا الفضل العظيم لصدق نيته ومقصده وبدأت باكورة هذه الجمعيات في أطهر بقاع الأرض من مهبط الوحي في قلب مكة المكرمة، وهنا أذكر أنه عندما عزم - بعون من الله تعالى - على إنشاء وتأسيس الجمعية الخيرية لرعاية الأيتام بمكة المكرمة لتتفرع منها فروع في جميع أنحاء المملكة، وكان ذلك في بداية عام 1414هـ وقد تكفل بنفسه - رحمه الله - مع بعض محبي الخير - جزاهم الله خير الجزاء - في إعداد مشروع النظام الأساسي للجمعية واختيار الأعضاء المؤسسين الذين يتجاوز عددهم المائة والثلاثين عضواً، وقد تم رفع مشروع النظام بصفته النهائية إلى مقام وزارة العمل والشؤون الاجتماعية للموافقة على إصدار الترخيص اللازم للجمعية، ولحرصه الشديد على سرعة ذلك كان يقوم شخصياً بمتابعة الموضوع مع المسؤولين بوزارة العمل، فلما رأى - رحمه الله - أن الموضوع تأخر وطالت مدته، ولحرصه الشديد، كان يحسب الأيام يوماً تلو يوم وهو ما يسارع إليه من أفعال الخير وهو يتمثل القول المأثور: (خير البر عاجله)؛ فجاهد وبذل كل ما يستطيع من وساطات وتوصيات في سبيل سرعة الموافقة على إصدار الترخيص اللازم لتأسيس هذه الجمعية، فكانت شغله الشاغل وهمه الذي يحمله في كل وقت وحين، ولكن علم الله سبحانه صدق نيته وإخلاصه ونبل عاطفته وشفقته حيال هؤلاء الأيتام، ففرج الله همه وأعطاه ما تمنى حيث هاتفه أحد المسؤولين - جزاه الله خير الجزاء - وهو في مكتبه وأبلغه بموافقة المقام السامي الكريم على إصدار الترخيص للجمعية، وما أن فرغ من هذه المحادثة الطيبة المسامع حتى فتح الباب علي وكأنه يريد أن يشاركه الجميع بهذا الخبر السعيد المبهج والفرحة واضحة جليةً على محياه الطلق البريء وجبينه الأغر الوضاء فقال يا أخ فهد تلقيت بهذه المكالمة الهاتفية أسعد خبر وبشرت بخير بشرى؛ فقد صدرت الموافقة السامية الكريمة على تأسيس الجمعية، فقلت: الله أكبر.. هنيئاً لمعاليكم، وأسأل الله أن يبارك لكم فيها ويعينكم ويسددكم، وقد سجدنا شاكرين له حامدين على ما من به من فضل ونعمة، فالله أكبر.. حقاً هكذا تكون الهمة والمروءة، وكنت أتأمل فرحته وسروره وانشراح صدره بهذا الخبر ونفسي تراودني؛ فوالله إنه لن يكسب من هذه الجمعيات أي مردود دنيوي بل سيكلفه الشيء الكثير وجهداً كبيراً؛ فالأمر يحتاج إلى تفرغ ذهني وبدني ووقت مضاعف، ولكن هكذا تكون همة الرجال المخلصين الذين نذروا أنفسهم لرضا الرحمن حيث غرس الله في قلبه العمل الخيري أياً كان وفي أي مكان بكل إخلاص ودون ملل؛ الأمر الذي يدفعه لأن يتحمل الصعاب ويصبر على المكاره والشدائد ويكابد مشاق السفر المتواصلة، وقد لا يعلم أحد أنه يفرغ نفسه للسفر إلى مكة المكرمة لمتابعة أعمال الجمعية في بداية تأسيسها نهاية كل أسبوع بعد انصرافه من الدوام الرسمي ويتحمل من حر ماله المصاريف السفرية المترتبة على ذلك.. إنها مواقف تذكر فتشكر لهذا الوالد الوقور.. فاللهم اجعله ممن قال فيهم - صلى الله عليه وسلم -: (مَن مسح على رأس يتيم لم يمسحه إلا لله كان له في كل شعرة مرت عليها يده حسنات، ومَن أحسن إلى يتيم أو يتيمة عنده كنت أنا وهو في الجنة كهاتين).. الله أكبر.. نحسبك - إن شاء الله - يا أبا هاني.. يا أبا اليتامى، أنك كفلت - بإذن الله - خلقاً كثيراً من الأيتام داخل المملكة وخارجها؛ فهنيئاً لك ولنا. |
وقد عهدته منذ عرفته - رحمه الله - أثناء تمتعه بإجازته السنوية يقسم مدتها إلى قسمين قسم للسفر مع عائلته الكريمة لصلة أرحامهم والآخر لمتابعة أعمال الجمعيات الخيرية التي يرأسها داخل وخارج المملكة، وهذا دأبه كل عام غفر الله له. |
|
ولقد لقي - رحمه الله - قبولاً وحباً صادقاً من جميع شرائح المجتمع، وأذكر عندما أكون في معية معاليه في أي مناسبة؛ فيصادف أن يلتقي بكثير من مسؤولي الدولة على اختلاف مراكزهم فتراهم كل يعبر عما يكنه للفقيد من محبة وتقدير واحترام، وأحياناً تتعدى عباراتهم إلا أن يصارح بعضهم البعض ويثنون عليه ثناءً مباشرة؛ الأمر الذي يضعه في حرج حيث كان - رحمه الله - شديد الحياء مع قمة في الأدب فلا يريد أن يجرح مشاعر أحد فيدعو لهم ثم يتلو القول المأثور: اللهم اجعلني خير مما يظنون واغفر لي ما لا يعملون، وأنا وكثير ممن زامل أو ارتبط بمعاليه دائماً ما نسمع من يثني على معاليه، ويسأل الله أن يكثر من أمثاله وأقول إنهم كثر - بحمد الله - عسى الله أن ينفع بهم البلاد والعباد. |
فهنيئاً لك يا والد؛ فقد قال - صلى الله عليه وسلم -: (ما من شيء أثقل في ميزان المؤمن يوم القيامة من خلق حسن..) الحديث. |
بقي أن نعرف أن الإخوة الأفاضل الذين ذكروا - جزاهم الله خيراً - الأوسمة التي منحت للفقيد - رحمه الله -؛ فشكر الله لهم، وهنا أريد أن أضيف وساماً واحداً ليس دنيوياً ولا مادياً ولا حتى من أي مخلوق، إنه من خالق السموات والأرض ومن فيهن.. إنه خير وأشرف وأكرم وسام أنزله الله من السماء.. إنه حب الله وحب جبريل وحب أهل السماء والأرض، وذلك مصداقاً لحديث الرسول - صلى الله عليه وسلم - الذي رواه أبو هريرة - رضي الله عنه - حيث قال: (إذا أحب الله العبد نادى جبريل: إن الله يحب فلاناً فأحبه، فيحبه جبريل، فينادي جبريل في أهل السماء: إن الله يحب فلاناً فأحبوه، فيحبه أهل السماء، ثم يوضع له القبول في أهل الأرض) رواه البخاري. |
وكان آخر أعماله الجليلة التي يبشر بها خيراً - بإذن الله - والتي أذكرها وأعرفها جيداً هو توليه -رحمه الله - وقيامه مع بعض إخوانه جيران حيه بالعزم على إنشاء مسجد للحي بكامل تبعاته من دار لتعليم القرآن الكريم (بنين وبنات) ومكتبة وإدارة (مركز دعوي متكامل)؛ فقام - رحمه الله - بزيارة المسؤولين بنفسه للحصول على الفسوحات اللازمة وسرعة إنهاء الإجراءات التي تعوق ذلك، وبحمد الله تم له ذلك؛ فقد بدأت لبنات هذا المسجد منذ شهور، وأبو هاني - غفر الله له - يرقب بناءه كلما غدا أو راح لأداء الصلاة في المسجد المؤقت المجاور للمشروع، فأسأل الله أن لا يحرمه ووالديه بيوتاً في جنات عدن، وقد تذكرت حديثاً عن أنس - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (إذا أراد الله بعبد خيراً استعمله قبل موته، قالوا: يا رسول الله: وكيف يستعمله؟ قال: يوفقه لعمل صالح ثم يقبضه عليه) مسند الإمام أحمد، كذلك ما صح عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : (من يرد الله به خيراً يصب منه)؛ فرأيت أن هذه البشارة قد وافقت - بإذن الله - هذا الوالد الفاضل؛ فلقد استعمله الله ووفقه إلى العمل الصالح ثم قبضه عليه، وكذلك ابتلاء الله له بالمرض الذي قارب عاماً كاملاً أقعده في الشهور الأخيرة بين منزله والمستشفى، وهو صابر محتسب متيقن بأن ما أصابه لم يكن ليخطئه راجياً ثواب الله، وما عند الله خير للأبرار. |
ختاماً.. أسأل الله العلي العظيم الذي إذا سأله المضطر أجابه.. يا من يقول للشيء كن فيكون.. اللهم ارحمه رحمة الأبرار، وألحقه بعبادك المصطفين الأخيار، وأمطر على قبره شآبيب العفو والرضوان، واجعل مستقره الفردوس الأعلى في الجنان، وارفع درجته في المهديين، وبوِّئه الدرجات العلى في عليين، وأخلفه في عقبه في الغابرين، واجمعنا وإياه وذريته ومحبيه مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقاً.. ولا تحرمنا أجره، ولا تفتنا بعده، واغفر لنا وله.. سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. (إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعونَ).. |
* مدير عام مكتب محافظ المؤسسة العامة للكهرباء المكلف سابقاً |
|