تعتبر المدرسة خط الدفاع الأول تجاه أي تهديد يستهدف المجتمع ويشكل خطراً عليه، ولا شك أن الفضائيات ووسائل الاتصالات أسهمت في خلق واقع جديد جعل مهمة المدرسة أكثر صعوبة في كثير من الأحايين.
والحفاظ على الذوق العام من الإفساد ومن التأثر بالأذواق العامة للأمم الأخرى من المهام التي يجب على المدرسة أن تحافظ عليها رغم أن الكثير قد يرى في هذا إثقالاً لكاهل المدرسة بمزيد من المهام؛ مما يجعلها غير قادرة على القيام بكل هذه المهام، لكن المسلم به أن المجتمعات استحدثت المدرسة كمؤسسة اجتماعية لتحقيق غايات المحافظة على ثوابتها وقيمها. ويأتي الذوق العام واحداً من أهم قيم المجتمع التي يجب على المدرسة أن تقوم بدور فاعل تجاه الحفاظ عليه من الذوبان والاندماج في أذواق أخرى قد تختلف من حيث منطلقاتها وتوجهاتها، ومن أهم ما يجب على المدرسة الاعتناء به من أجل تحقيق غاية الحفاظ على (الذوق العام للمجتمع) الاهتمام بفن الإنشاد؛ حيث يعتبر هذا الفن من الفنون الجميلة التي لها تأثيرها الكبير في النفوس، وأمام هذا التأثير الكبير له فقد استُخدم في تقديم مضامين وتوجيهات تربوية لمختلف الشرائح، لكن يبدو فن الإنشاد أعظم تأثيراً في نفوس الأطفال، وما يميز هذا الفن جرسه الموسيقي وقصر عبارته وإيقاعه السريع ومباشرته وما يتيحه من إمكانات تعبيرية كبيرة، فضلاً عن طبيعته التطريبية؛ مما يجعله ميداناً للتسرية عن النفوس وطرد الملل وجعل النصوص أدعى للحفظ؛ وبالتالي تشكيل الذائقة السليمة وهو - أي فن الإنشاد- من أكثر الفنون قدرة على التأثير في المتلقي، ويمكن وصفه بالفن الإسلامي المتزن الذي يحرر العواطف ويشجي النفوس ويقرع الآذان ويحدث في النفوس التأثير، وهو من الموروثات الجميلة التي تلامس الوجدان وتوقظه وتحدث فيه أعظم الأثر، وقد فطن المربون إلى تأثيره فاتخذوا منه وسيلة تربوية ناجحة للتوجيه. ومتى تم الاهتمام به وتوجيهه وجهة سليمة فإن له من التأثير ما يجعله يتجاوز غاية الحفاظ على الذوق العام من الإفساد إلى غايات أبعد؛ حيث أن للإنشاد كفن متى استخدم كوسيط تربوي أضعاف ما للوسائل التوجيهية الأخرى من تأثير.
ولكون المدرسة هي المحضن الأول وأهم دور التنشئة الاجتماعية وعن طريقها يمكن تقديم الكثير لفن الإنشاد فإنني هنا سأسمح لنفسي بملامسة واقع فن الإنشاد في مدارسنا ومحاولة طرح ما يمكن أن يرتقي به نحو الأفضل.
الملاحظ هنا أن وزارة التربية والتعليم قد فطنت إلى أهمية هذا الفن فأدخلته كمفردة ضمن مقرراتها للمرحلة الابتدائية ضمن مقررات مادة القراءة وأفردت له عدداً من الحصص ضمن جدول اليوم الدراسي كما استهدفته بعض البرامج التي تقام ضمن الأنشطة الثقافية على مستوى بعض إدارات التربية والتعليم من خلال ما يسمى (مسابقات الإنشاد الفردي والجماعي لطلاب المرحلة الابتدائية)، ولكن حتى هذا التوجه يخضع لاجتهادات القائمين على تلك الأنشطة ومستوى الوعي لديهم بدور هذا الفن وأهميته.
وفي الوقت الذي يفترض أن يتنامى الاهتمام بهذا الفن وتتوسع الميادين التي تشرعها المدارس له إلا أن الملاحظ أن هذه الجهود توقفت عند الحد الأدنى بدلاً من التوسع في التكريس لهذا الفن والحرص على إشاعته بالتدريب والتأهيل وتزويد القائمين عليه بما يحتاجون إليه من تجهيزات وأدوات ووسائط مختلفة، في ظل الثورة التقنية وفي ظل وجود جيل يتأثر بمعطياتها المختلفة لكونها ارتبطت بواقعهم ولامست مشاعرهم وشكلت معهم علاقات ثنائية وتجسدت أهميتها في مواقف معينة واندمجت بأحاسيسهم في لحظات فرحهم أو حزنهم؛ مما يجعل منها لازمة في حياتهم، وبناء عليه فإنه من المهم أن تظهر موضوعات الإنشاد في المقررات الدراسية بثوب أكثر جمالاً وجدة وعدم التوقف عند نص إنشادي جامد مكتوب بين دفتي كتاب القراءة يقدم للطالب بطريقة تقليدية تقوم على حفظ النص وترديده حتى دون أن يكلف المعلم نفسه عناء تلحينه.
ويجب أن لا نلوم المعلم فهو يلمس أن الاهتمام بهذا الفن مفقود ويرى بعينيه ضعف الاهتمام به ومن الطبيعي أن ينسحب هذا عليه كمعلم ومن أجل تغيير واقع هذا الفن في مدارسنا وجب على وزارتنا الفتية أن تلتفت إلى هذا الفن وأن توليه جل عنايتها وأن تجعل ضمن برامجها ما يعزز مكانته ويعلي من شأنه ويفيد منه كوسيط تربوي فاعل من خلاله نستطيع تقديم الكثير من القيم وعن طريقه نستطيع غرس الكثير من المفاهيم وتوجيه الميول وغرس الاتجاهات الإيجابية ونزاحم به الغناء الهابط ونقلل من تأثيره المدمر على الجيل، ولن يتم هذا في ظل ما نلمسه من ممارسات وفي ظل وجود كادر من المعلمين لا يلقي بالاً لدور هذا الفن ولا يرى فيه أكثر من حصة مدتها خمس وأربعون دقيقة وحفظ نص مقرر على الطالب ويجب أن يسمعه له.
ومن المعلوم أن لكل فن أسسه النظرية ومرتكزاته التي يتكئ عليها وألوانه المتعددة التي تشكل معالم هذا الفن، ومن المؤسف أن القائمين على تدريس هذا الفن لم يتسن لهم دراسة هذه المواضيع ضمن خطة الإعداد الأكاديمي في الكليات والجامعات؛ مما يحتم على تلك الجهات أهمية إدراج مواد تهتم بهذا الفن وتعرف به ضمن خططها ودون وجود معلمين يدركون الأسس الفنية ويرتهنون إلى إعداد أكاديمي يسهل عليهم الإفادة من العلوم المختلفة، وستصبح إمكانية توظيف تلك العلوم عصية عليهم؛ وبالتالي فإن مهمتهم ستصبح صعبة والنتائج التي تتحقق تكون أقل من المأمول.
وفي ظل وجود مشروع خادم الحرمين الشريفين الملك عبدالله لتطوير التعليم هذا المشروع العملاق والمدعوم في ذات الوقت فإننا نأمل أن يكون الاهتمام بهذا الفن أكثر من خلال التوجهات التالية:
- احتواء خطة الوزارة على ملتقيات ومسابقات إنشادية للكشف عن المواهب الإنشادية في مجال الأداء - الإدارة - الكتابة الإنشادية، مع ضرورة إقامة ندوات نقدية وتثقيفية على هامش تلك الملتقيات والمنافسات الإنشادية من أجل التعريف أكثر بهذا الفن.
- إقامة دورات في علوم الصوتيات لمعلمي اللغة العربية والقرآن الكريم ومن يقومون بمهمة الإشراف على برامج الإنشاد بالمدارس.
- تنفيذ زيارات لمنسوبي الوزارة والمدارس لبعض الاستديوهات المتقدمة والتعرف على محتوياتها.
- إيجاد بوابة إلكترونية وموقع (يو تيوب) يهتم بفن الإنشاد ويمكن الإفادة من بوابة النشاط الطلابي الإلكترونية.
- إنشاء استديوهات تابعة لإدارات التعليم وبكل مدرسة لتسجيل الأناشيد وتزويدها بأحدث التقنيات الحديثة.
- العمل على إنتاج ألبومات إنشادية تحوي مضامين وموضوعات مختلفة (وطنية ودينية وتربوية واجتماعية).
-إقامة دورات تدريبية للمعنيين بالإشراف على الأنشطة في إدارات التربية والتعليم والمدارس في مجالات (تحسين الأصوات - أجمل ترتيل - إدارة الفرق الإنشادية - التدريب على التعامل مع الأجهزة المتوافرة بالاستديوهات الإنشادية - علوم الصوتيات - تصوير الفيديو كليبات الإنشادية ونحوها من الموضوعات التي تتعلق بفن الإنشاد).
- إقامة مسابقات تحفز المعنيين في الميدان على إنتاج وتصوير فيديو كليبات إنشادية من خلال إقامة المهرجانات والمسابقات التنافسية للفيديو كليبات الإنشادية.
- الخروج بموضوعات الإنشاد في المقررات الدراسية إلى آفاق التقنية من خلال تسجيل الأناشيد المقررة بطريقة جذابة (فيديو كليب أو على أقراص صلبة مع الاستفادة من تقنيات الصور ثلاثية البعد - والاهتمام بتأثير الشخصيات الكرتونية المحببة من خلال تسجيل النشيد على ألسنة الشخصيات الكرتونية المحببة للأطفال أو على ألسنة شخصيات يتم اختراعها خصيصاً لهذه الغاية). لعل في هذا خطوة تعمل على تنامي الإحساس بأهمية تنمية الذوق الجمالي لدى الجيل القادم ومواجهة ما يتعرضون له من هجمة عارمة لإفساد الذوق العام عن طريق الغناء الهابط والمدرسة لن تعفى من مهمة التصدي لتلك الهجمة ومسؤوليتها تتعاظم بشكل كبير أمام هذا الواقع والالتفات إلى فن الإنشاد والاهتمام به خطوة مهمة وجادة في تشكيل جدار ناري عازل ضد فساد الذوق العام.
المخواة
bmw-6060@hotmail.com