Al Jazirah NewsPaper Monday  06/10/2008 G Issue 13157
الأثنين 07 شوال 1429   العدد  13157
قصة اليمين واليسار.. هل انتهت؟ 1 من 2
د. عبد الرحمن الحبيب

بعد موافقة مجلس النواب والشيوخ الأمريكي على خطة الإنقاذ المالية لمواجهة الكارثة المالية، اعتبر البعض أن تلك الموافقة تشكل ضربة للفكر الرأسمالي ولليمين، بل عدها البعض هزيمة للرأسمالية لا تقل عن هزيمة الشيوعية بعد سقوط الاتحاد السوفيتي قبل عشرين عاماً.

وكان أغلب الجمهوريين معارضين لخطة الإنقاذ لأسباب أيديولوجية؛ لأن ذلك يعني أن الدولة أصبحت تقود الاقتصاد ولم تعد السوق حرة.. وكان الخلاف الأيديولوجي على أشده بين اليمين واليسار.. ولكن منذ سقوط الاتحاد السوفيتي، ومع ظهور عوامل عديدة كالعولمة، دخل التقسيم بين اليمين واليسار في حالة من اللبس، بل رأى البعض أنه لم يعد مفيداً كمصطلح تطبيقي.. فهل عادت الحيوية لهذا الفرز أم أنه ازداد غموضاً وضعفاً؟

من الأدبيات الكلاسيكية في الفكر السياسي أن نجد التقسيم بين اليمين واليسار، حيث الأول يمثل الفكر الرأسمالي المؤيد للسوق الحرة دون تدخل الدولة، والثاني يمثل الفكر الاشتراكي أو الاقتصاد الموجه.. الأول مع تكافؤ الفرص والثاني مع عدالة توزيع الثروة.. الأول محافظ باعتبار أن طبيعة الإنسان والمجتمع ثابتة، بينما الثاني متحرر باعتبار أن هذه الطبيعة متغيرة.. فلنروِ قصة اليمين واليسار من بدايتها حتى أيامنا الحاضرة.

بدأت القصة في السنوات الأولى للثورة الفرنسية، وبالتحديد عام 1791م، في اجتماع الجمعية التشريعية، حين كان الملك لا يزال (من الناحية الرسمية فقط) رأس الدولة، حيث المعتدلون الذين يميلون لإصلاحات معتدلة مع بقاء الملكية (ملكية دستورية) أخذوا مقاعدهم يمين صالة الاجتماع على يمين رئيس المجلس، بينما الراديكاليون الثوريون الذين يطالبون بإقامة الجمهورية أخذوا المقاعد اليسارية.

وفي ذلك الوقت استعمل المصطلح يمين - يسار للفرز بين أولئك الذين يفضلون المحافظة على النظام القديم أو بقاياه (الأرستقراطية، الملكية...) وهم يمثلون اليمين، وبين أولئك المعارضين للنظام القديم ويؤيدون قيام الجمهورية وهم يمثلون اليسار، والذين ظهر منهم الليبراليون والاشتراكيون. ولأن الجمعية الوطنية كان يسيطر عليها اليساريون فقد انتهت الثورة الفرنسية بسقوط الملكية.

وكان اليساريون آنذاك يفضلون تقليل تدخل الدولة في الاقتصاد إلى أقل حد، كمبدأ أساسي للحرية، على عكس اليمينيين الذين كانوا مع تدخل الدولة. والطرافة هنا أنه بعد ذلك بعقود تبدلت المواقع فأصبح اليساريون مع تدخل الدولة بينما عارض ذلك اليمينيون؛ لأن اليمين القديم كان مع الإقطاع، لكن عند الانهيار الكامل للإقطاع صار اليمين في جهة الرأسمالية، وصار اليسار في الجهة المعاكسة، خصوصاً مع صعود الاشتراكية.. عموماً، كان الخلاف بين اليمين واليسار سياسياً وأيديولوجياً أكثر منه اقتصادياً في فترة الثورة الفرنسية وما تلاها لبضعة عقود.

وكانت بريطانيا أول من تأثر بالفرز يمين - يسار، أثناء الثورة الفرنسية؛ فظهر مناصرون معتدلون لأفكار الثورة في البرلمان وطالبوا بإصلاحات وتقليل نفوذ الحُكم، وأصبحوا يُصنَّفون يساريين، بينما المحافظون على الوضع القائم كما هو دون تغيير مع عداء مطلق لفكر الثورة الفرنسية يُصنَّفون يمينيين.. وهذا الفرز بدأ في الانتشار لبقية القارة الأوروبية.. وبعد نهاية الثورة الفرنسية وقيادة نابليون لفرنسا (1799م) ازداد الفرز بين اليمين واليسار تكريساً ليعني الأول مناصرة الملكية ومبادئ الأرستقراطية، وليعني الثاني مناصرة الحكم الجمهوري ومبادئ الثورة الفرنسية. إلا أن الإشكالية الكبيرة كانت في حيرة الأوروبيين المناصرين لليسار: هل يعني ذلك أنهم يناصرون أيضاً حكم نابليون التوسعي المكروه ونظامه الدكتاتوري؟ على كل حال، فإن التوجه العام للدول المحيطة بفرنسا النابليونية كان يسير نحو التمييز بين نابليون وبين الثورة الفرنسية التي أعطت فرنسا دفعة قوية للأمام.

ومع سقوط نابليون (1814م) اجتمعت القيادات التقليدية الأوروبية في فيينا، وكان الخط العام يتفق على استحالة عودة النظام القديم، وضرورة الإصلاح مع الأخذ من مبادئ الثورة الفرنسية باعتدال للمحافظة على الأمن والنظام؛ أي دون فتح الباب كاملاً لهذه الثورة التي أيضاً حكمت بالإرهاب وأكلت أبناءها.

ومع مرور الوقت وحتى منتصف القرن التاسع عشر كان مدى القياس بين اليمين واليسار يميل لليسار تدريجياً.. بمعنى أن اليمين التقليدي الذي كان يؤيد الملكية والأرستقراطية أصبح يُعد يميناً متطرفاً، بينما أولئك الذين أيدوا الإصلاح المعتدل والذين كانوا في اليسار (في يمين اليسار) أصبحوا يمثلون اليمين المعتدل. وكذلك في اليسار ومع تنامي الأفكار الاشتراكية، ظهر يساريون أكثر يسارية من الثوريين التقليديين ومن الجمهوريين ومن الليبراليين، وطالبوا بمساواة أكبر في المعيشة وضمان أقوى في الحقوق وتمثيل أوسع في البرلمان؛ ليصل اليسار إلى ذروته بظهور الماركسية (1848م)، التي أطلق عليها اليسار المتطرف أو الراديكالي؛ تمييزاً عن الاشتراكيين وبعض الليبراليين الذين أصبحوا أقرب إلى يمين اليسار أو يسار الوسط.. إذن، لم يعد لدينا خطوط عامة يمينية ويسارية ووسطية فقط، بل إن في داخل كل منها توجه إلى فروع جهة اليمين واليسار والوسط.

ومع تنامي الفكر الشيوعي في القارة الأوروبية أصبح مدى القياس يتوجه يساراً مرة أخرى.. فهذا اليسار المتطرف أصبح يساراً عادياً؛ لأنه يمثل اليسار عموماً مع انتصار الثورة البلشفية (الماركسية اللينينية) في روسيا سنة 1917م. وأصبح اليسار المتطرف يُطلق على شيوعيين أكثر راديكالية من البلاشفة مثل الستالينية والماوية والمليشيات الشيوعية الثورية التي ظهرت في العالم الثالث.. أما الاشتراكيون الديموقراطيون فيصنفون غالباً في يمين اليسار أو يسار الوسط.. فيما غالبية الليبراليين الجدد صُنفوا في يسار الوسط، وإن كان بعضهم يوضع في اليمين وبعض آخر في اليسار. وفي الحرب العالمية الثانية أصبح الفرز بين اليمين واليسار يشوبه كثير من الاختلاط؛ فألمانيا بقيادة هتلر وجيشه النازي يمثلان اليمين المتطرف، والاتحاد السوفيتي بقيادة ستالين يمثلان اليسار المتطرف، فيما الدول الغربية، خصوصاً بريطانيا بقيادة حزب المحافظين بزعامة تشرشل، تمثل اليمين، ومع ذلك لا يمكن وضع بريطانيا في خانة ألمانيا، بل إنها كانت حليفة للاتحاد السوفيتي! مما يعني أن هذا التقسيم السياسي (يمين - يسار) لا يشكل مقياساً مفيداً في كل الأحوال.

ومع فترة الحرب الباردة كانت الأمور أوضح، حيث مثلت الولايات المتحدة الأمريكية اليمين العالمي وقيادة العالم الرأسمالي، ومثل الاتحاد السوفيتي اليسار العالمي وقيادة العالم الاشتراكي. ودعم السوفييت الحركات اليسارية حول العالم، خصوصاً في العالم الثالث، وكانت الصبغة الرئيسية للحركات الثورية هي الصبغة اليسارية؛ لذلك مع نهاية الاستعمار في الخمسينيات والستينيات كان أغلب العالم الثالث يقوده اليساريون، وكان الفكر العالمي كله يتوجه يساراً.

لكن في السبعينيات والثمانينيات كان الاتحاد السوفييتي يعيش في شيخوخة بيروقراطية في العهد البرجنيفي، وكذلك كان اليسار في تراجع.. في تلك الأثناء ظهرت في العالم الرأسمالي التاتشرية والريجانية ممثلة أقصى اليمين، وأصبح العالم يتوجه يميناً، حتى سقط الاتحاد السوفيتي.. فدخل المصطلح في أزمة نتطرق إليها في المقالة القادمة بإذنه تعالى.



alhebib@yahoo.com
لإبداء الرأي حول هذا المقال أرسل رسالة قصيرة SMS  تبدأ برقم الكاتب 6848 ثم إلى الكود 82244

 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

رأي الجزيرة

صفحات العدد