أكتب لقرائي الأعزاء اليوم هذه الخواطر عن مشهد عشته أدعوا الله ألا يمر بك مثله، لكن أما وقد قدَّر الله عليَّ أن أمر بهذا الموقف شخصياً فإني آثرت أن أسجل بعض هذه الخواطر والمشاعر بين يديك راجياً أن يكون فيها الفائدة والعبرة.
الزمان هو صبيحة يوم العيد وكما شهدنا فإن شهر رمضان المبارك لم يتمم ثلاثين يوماً، وهو الأمر الذي جعل ليلة العيد ليلة مزدحمة بالترتيبات والإعدادات الضرورية ليوم العيد، مما اضطرني للمواصلة خشية فوات صلاتي الفجر والعيد التين أكرمني ربي بحضورهما جماعة في المسجد. أما المكان فقد كان فراشي الذي أويت إليه منهكاً وذلك بعد السلام على الوالدين عقيب صلاة العيد. ومع أذان الظهر استيقظت، استعداداً لحضور اجتماع العائلة، على رنة المحمول وإذا بها أختي تستفسر عن مكان صلاة النساء على الفقيدة، حيث ظنت أختي أن لدي خبراً عن نبأ وفاة. سألتها مفزوعاً: عن أي فقيدة تتحدثين؟ من الذي مات؟ وتمر لحظة صمت من أعنف ما مر بي في حياتي لتخبرني بلسان الحزن والفزع عن وفاة عمتي صبيحة يوم العيد، معتذرة عن أسلوب الإخبار المفاجئ. أنهيت المكالمة بهدوء وحاولت أن أتمالك نفسي وبدأت في تفقد محمولي الذي كان على وضع الصامت لأجد سيلاً من الرسائل والمكالمات التي لم يُرد عليها وبدأت في الاقتناع أن عمتي قد توفيت فعلاً صبيحة يوم العيد. فزعت لصلاة الظهر لأجد نفسي مجبوراً على مشاهدة فيلم وثائقي يؤرخ علاقتي بالفقيدة والتي قد امتدت لأكثر من ثلاثين سنة؛ خمس سنوات فقط وهي صحيحة معافاة وخمس وعشرون سنة معاناة مع المرض منها خمس عشرة سنة معاناة محدودة الحركة ومن ثم ملازمة للكرسي أو الفراش سواء في المستشفى أو في عيادتها المنزلية. يا إلهي!! ماذا عساي أن أفعل؟ هل أعايد الأقارب والأصدقاء أم أزف إليهم الخبر زف الصاعقة كما حصل معي؟ هل أبكي أم أفرح؟ أسئلة صعبة الإجابة تتزامن مع استمرار عرض وتكرار هذا الفيلم الوثائقي العاطفي الحساس. انطلقت كالمجنون إلى المستشفى وأدركت -بحمد الله- رؤيتها وتقبيل جبينها الوضاء والطاهر - إن شاء الله - وذلك بعد تغسيلها لتكون هذه القبلة الجرعة المسكنة الأولى التي تناولتها بعد هذه الفجيعة. يسر الله برحمته وكرمه أمور تغسيلها وتكفينها وإجراءات خروجها من المستشفى ودفنها، وها نحن ذا ما زلنا نتلقى التعازي سواء بالزيارة أو عن طريق الهاتف. قرائي الكرام: إن مشهد المرض والوفاة مشهد قد لا تخلو منه أشرطة ذكرياتكم ولكن اسمحوا لي أن أشارككم شجوني وأبثكم شيئاً من خواطري التي ستكون بلا عنوان ولا هوية إذا لم أسطر ها هنا نبذة ولو بسيطة عن حياة فقيدتنا الغالية..
لقد كانت فقيدتنا -رحمها الله- مختلفة عن كثير من غيرها من النساء. بدأ مسلسل الاختلاف في طبيعة نشأتها بأنها فقدت والدتها -رحمها الله- في طفولتها المبكرة الأمر الذي خولها الاعتماد على نفسها مبكراً، فأصبحت امرأة ناضجة حسنة المعشر ولينة الجانب ومتميزة في إدارة الشؤون المنزلية حيث كان يتناقل الناس إتقانها للخياطة وكان يتحدث الركبان عن طيب إعدادها للطعام. وتزوجت مبكرة ورزقت بذرية كريمة. ولكن معاناة بطلتنا مع المرض بدأت أيضاً مبكراً وبشكل متدرج استمر لحوالي ثلاثين عاماً.
الخاطرة الأولى: مشهد المرض الذي لازمها قرابة الثلاثين عاماً واغتال شبابها وصحتها وعافيتها وأخيراً روحها الطاهرة - إن شاء الله - هذا القاتل البطيء الذي كان يقتلها بالتقسيط المريح، أقساط صغيرة القدر لكنها كثيرة متتابعة مستمرة. مهما حاولت الاستفاضة والشرح عن مشهد ملازمة المرض لها طوال تلك السنوات لن تتمكن الكلمات من استيعاب ووصف طول معاناتها مع المرض، لذلك كان من الحكمة - والله أعلم - في ندب الشارع الحكيم لزيارة المريض أن فيها موعظة للزائر وليس فقط تخفيفاً على المُزار.
الخاطرة الثانية: لا أسوق هذه الخاطرة من باب تمجيد الفقيدة ولا مدحها لكن سيرتها العطرة وصبرها على الابتلاء يجعل منها قدوة لا محالة ونبراساً مضيئاً لكل من لازمها أو تشرف بمعرفتها، فعلى طول مدة مرضها وصعوبة حالتها خاصة خلال الخمس عشرة سنة الماضية وعلى كثر وتنوع زوارها، لم ينقل عنها زائر واحد شكواها من الألم أو تضجرها من المرض. بل على العكس لم تكن الابتسامة تفارقها حتى بعد أن أخفى المرض كثيراً من تعابيرها وخنق صوتها إلى درجة لم تعد خلالها تمتلك قدرة التواصل مع الآخرين إلا بلغة هامسة اضطرت ملازميها وممرضيها القريبين على فهمها وإتقانها. لقد كانت الفقيدة حتى في شدة مرضها تعزم على زائرها بحق ضيافته من تناول قدح الشاي أو القهوة مع ما تيسر من تمر أو نحوه، وبسؤال زائرها عن حاله وحال زوجه وولده، فإذا أعياها التواصل تواصلت بالابتسامة التي لم تفارق محياها في حياتها - وبعد مماتها إن شاء الله.
الخاطرة الثالثة: قد لا يغيب إبليس عن مواقف عصيبة كهذه وقد يوسوس لذوي أي مصاب كمصابنا في فقيدتنا الجلل بوساوس وأسئلة قد تنفث مع الألم والحزن كلماذا هي بالذات تتعرض لكل هذه المعاناة، ولكن داعي الإيمان كان يغلب بحمد الله لنوقن جميعاً أن ربها ومولاها أرأف بحالها منها فرحمته سبحانه وسعت كل شيء ولله في ابتلائها من الحكمة ما لا يعلمه أو يحصيه إلا الله. لذا حينما ضجت نفوسنا بالحزن والألم، كان استشعار هذه الحقيقة الشرعية دواء ناجعاً أعاننا على الصبر على الابتلاء واستفدنا منه كثيراً في تعاملنا مع حالتها المرضية الصعبة وغيرها من الحالات.
الخاطرة الرابعة: بين التعزية والمعايدة تجربة فريدة، فإذا حضر شخص ما لأداء واجب العزاء، هل يمكن معايدته مع استقبال تعزيته؟ وأيهما أسبق؟ تعلمنا من الحادثة ألا تعارض بين الأمرين فالمعايدة حق وفرحة والتعزية حق وألم لكن لا تعارض بين الأمرين. والحمد لله على نعمة الإسلام وشعائره العظام وقيمه العظيمة المتكاملة ومنهجه الشامل لكل ما ينفع العبد في دينه ودنياه وأخراه.
walrashid@yahoo.com