Al Jazirah NewsPaper Monday  20/10/2008 G Issue 13171
الأثنين 21 شوال 1429   العدد  13171
الأزمة المالية.. اقتصاد السوق والانتهازية الفردية؟
د. محمد بن فهد القحطاني

يعزو العديد من المختصين انهيار نظام الإدارة المركزية إلى غياب أمرين رئيسيين: فاعلية القرارات الاقتصادية ونظام الحوافز الفردية، ويتمثل ذلك في توظيف الحكومة لعناصر الإنتاج والقيام بأعباء العملية الإنتاجية وفق التقنيات المتاحة ومن ثم الاضطلاع بتوزيع المنتجات من خلال المنافذ الحكومية. هذه المنظومة الاقتصادية تمخض عنها قرارات اقتصادية متدنية الكفاءة وهدر للموارد الاقتصادية ونقص حاد في السلع والخدمات المتاحة لجمهور المستهلكين وانحطاط في جودة السلع وتدني المقدرة على المنافسة في الأسواق الدولية. في وجه تلك الصعوبات اضطُرت دول الإدارة المركزية إلى تبني بعض الإصلاحات البسيطة التي تهدف إلى تعزيز الملكية الفردية ونظام الحوافز على نطاق ضيق؛ ما أدى إلى تأجيل عملية الانهيار، لكنه لم يقم بحل مشكلة الكفاءة بشكل جذري.

على النقيض تماماً يأتي نظام السوق المبني على الملكية الفردية تحت شعار (دعه يعمل، دعه يمر) الذي يمنح الوحدة الاقتصادية، سواء كانت فرداً أم منشأة، الحرية التامة في اتخاذ القرارات الاقتصادية الملائمة مدفوعاً بالمصلحة الفردية الخاصة.

تفترض أدبيات الاقتصاد الحر تقليص تدخل الحكومة في النشاط الاقتصادي إلى الحد الأدنى المتمثل في صياغة الأنظمة والتشريعات وفرض التعاقدات المبرمة بين الوحدات الاقتصادية المختلفة، إلا أنه أصبح من الضروري تبني سياسات اقتصادية تهدف إلى تحفيز النشاطات الاقتصادية؛ نظراً إلى تأرجح النتائج وفقاً للدورات المتعاقبة بين رواج وتباطؤ في عجلة النمو. من خلال هذه الحوافز تستطيع الحكومة توجيه دفة الاقتصاد نحو الوجهات المرغوبة بالتأثير في سلوك الوحدات الاقتصادية دون التدخل مباشرة في التعاملات اليومية من إنتاج واستهلاك بسبب تدني كفاءة القرارات الحكومية المحفوفة بالمصالح الشخصية الذي قد يتسبب في هدر الموارد العامة المحدودة؛ فلقد حققت نظرية (الطلب الفعّال)، التي تفترض أن تضخ الحكومة سيولة هائلة لخلق مزيد من الطلب على السلع والخدمات، نتائج مذهلة لانتشال الاقتصاديات المتعثرة إبان الكساد الكبير في أواخر عشرينيات القرن الماضي، كما لعبت سياسات (اقتصاديات جوانب العرض) نجاحات مماثلة في دفع عجلة النمو من خلال خلق تسهيلات ائتمانية وزيادة السيولة وتقليص التكاليف التي يتحملها المنتج.

حققت النظرية الرأسمالية في هذا الصدد نجاحات كبيرة ولاسيما في أعقاب فشل وانهيار نظام الإدارة المركزية، حيث أصبحت فلسفة السوق الحر نموذجاً يُحتذى من قِبل الدول ذات الأنظمة الاقتصادية المختلطة التي أضحت تنادي بتطبيق مبادئ المنافسة والكفاءة والفاعلية واضطلاع قطاع الأعمال بالمزيد من النشاطات الاقتصادية المبني على نظام الحوافز السلوكية، فأنظمة الإدارة المركزية السابقة قامت بفتح أسواقها في وجه المنافسة وفقاً لنظام الأسعار وقوى العرض والطلب، وانطلقت العديد من الدول النامية لترفع مساهمة القطاع الصناعي في الناتج القومي وتحظى بتصنيف جديد عُرف ب(الدول حديثة التصنيع)، كما أصبحت العديد من البلدان النامية ذات (أسواق صاعدة) تنافس الدول الصناعية، إلا أن تلك المنجزات جميعها مرهونة بمدى نجاح الوحدات الاقتصادية الفردية في اتخاذ القرارات الملائمة لخدمة المصالح الخاصة، ومن ثم عندما تتجمع تلك الأهداف تتحقق مصلحة المجتمع بشكل عام بشرط توافر ظروف المنافسة والشفافية والعدالة في توزيع الفرص المتاحة وسن متخذ القرار لأنظمة وتشريعات واتباع سياسات اقتصادية كفيلة بتوجيه السلوك الفردي الوجهة التي تخدم الصالح العام، لكن هذه التدخلات خلقت معضلة حقيقية لنظام السوق الحر الذي من ناحية يتطلب عدم تدخل الحكومة في النشاطات الاقتصادية إلا أنه من ناحية أخرى يتطلب تدخل الحكومة لتقييد وتوجيه السلوك الفردي. لعل ذلك التناقض يبرر لنا نداءات العديد من الاقتصاديين ورجال السياسة بتقليص حجم ودور الحكومة في الدول الصناعية في حين أن حجم الحكومات في ازدياد، بل إن تدخل القطاع الحكومي في النشاطات الاقتصادية في تنامٍ مستمر من خلال صياغة التشريعات التي تتوخى تقليص السلوك الانتهازي المضر بالمصالح الوطنية.

إنَّ السبب الحقيقي للأزمة المالية الدولية الحالية، كما يشير العديد من الباحثين والمختصين، ينحصر في غياب التشريعات التي يفترض أن تضبط سلوك المؤسسات المالية وتنظم سوق الإقراض؛ ما خلق فرصاً ربحية هائلة لدى الشركات الائتمانية للتوسع في منح القروض للأفراد دون النظر لاحتمال الفشل في السداد، وبالتالي أصبح سلوك الأفراد الانتهازي يعمل ضد المصالح العامة خلاف ما تفترضه النظرية؛ ما أدى إلى خلق أزمة مالية تتجاوز الحدود الأمريكية إلى أسواق المال الدولية. تشير المدرسة السلوكية إلى ضرورة وجود آليات تحد من السلوك الانتهازي المضر بالمصالح العامة، فنظرية (الخطر الأخلاقي) تعطي مثالاً واضحاً لتغيير الإنسان سلوكه وفقاً للمستجدات والظروف لتحقيق مكاسب شخصية عندما تسنح الفرصة بذلك. لعل من الأمثلة الناصعة في هذا الصدد هو أزمة مؤسسات الإقراض الصغيرة (Saving AND Loan Crisis) في الولايات المتحدة الأمريكية في أوائل التسعينيات التي أدى إفلاسها إلى تكبد دافعي الضرائب الأمريكيين لخسائر مهولة نظراً لوجود نظام يضمن مشاريع وقروض تلك المؤسسات الائتمانية الصغيرة في حال الإفلاس؛ ما دفع المستثمرين إلى القفز إلى الاستثمار في فرص شديدة المخاطر طالما أن التأمين المجاني سوف تحصل عليه في حال الخسارة، هذا السلوك الانتهازي دفع الساسة الأمريكيين إلى إعادة النظر في منح ضمانات كهذه. أما واقع الدول النامية المرير فهو أشد وضوحاً حيث يستشري الفساد المالي والإداري والاعتداء على المال العام ليس فقط بسبب غياب وقصور الأنظمة والتشريعات في الحفاظ على المصالح الوطنية العليا، ولكن لاستطاعة هذا السلوك الانتهازي في التأثير على القرارات الوطنية وتعطيلها عن التطبيق إذا اقتضى الأمر تحقيقاً للمصالح الشخصية في ظل غياب الرقابة الشعبية وقصور أداء المؤسسات العامة. ولعل أسطع برهان على ذلك هو الترتيب المخجل للبلدان النامية في قائمة الشفافية العالمية الذي صدر مؤخراً.

أستاذ الاقتصاد المساعد، معهد الدراسات الدبلوماسية



 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

رأي الجزيرة

صفحات العدد