Al Jazirah NewsPaper Monday  20/10/2008 G Issue 13171
الأثنين 21 شوال 1429   العدد  13171
القاضي (المحنك) هو من يستطيع قراءة ملامح من يقف أمامه للمحاكمة

قرأت ما كتبه الأستاذ بدر بن أحمد كريم، بالعدد رقم 13160 ليوم الخميس الموافق 10-10-1429هـ ص 25 تحت عنوان: (إصلاح القضاة)، حينما قصد إصلاحهم من خلال رفع مستواهم العلمي وزيادة قدراتهم العملية وتنمية مهاراتهم القضائية فضلاً عن إثراء معلوماتهم وإلمامهم بما يستجد في المجالين الجنائي والادعاء العام الدوليين.. إلخ، فالقضاء بلا شك هو الذي يوفر الحماية المتحركة للحقوق وهي حماية ضرورية لاحترامها لا توفرها الحماية الساكنة أو السلبية، وبالتالي يشعر الإنسان بالأمن على نفسه وعرضه وماله، وقال السرخسي رحمه الله: (اعلم بأن القضاء بالحق من أقوى الفرائض بعد الإيمان بالله تعالى وهو من اشرف العبادات)، وأحكام الشريعة بينت لنا بجلاء أنها قد حرصت على توخي العدل في كل مجالات الحياة بلا استثناء، واسمحوا لي ان أدلي بدلوي حيال المسؤوليات والمهام الجسام الملقاة على عاتق القضاة ودورهم الأساسي في إصلاح الجاني من خلال التفعيل الفعلي في أحكامهم لعدد من المواد والفقرات والبدائل النظامية في أنظمتها السعودية التي لم تغفل هذا الجانب في محتوياتها، سعيا منها لإصلاح الجناة ومنح القضاة الصلاحيات المطلقة في استخدامها دون قيد أو شرط، وذلك من خلال ما يلي:

1- أشار الأستاذ مندل القباع في مقاله المنشور بالجزيرة بتاريخ 3-2-1429هـ، ص: (42)،.. (وفي توقيع العقوبة يتوجب على القاضي معرفة العوامل المهيئة والمسببة للجريمة أخذا بمبادئ التفريد في التناول والإنسانية في العطاء وهذا التوجيه يستهدف البحث عن أسباب وقوع الجاني في هوة الانحراف لإمكانية وضع برامج العلاج المناسب حتى يمكنه الاندماج في المجتمع والعودة لأسرته سليما معافى وهذا يتفق مع قاعدة المسؤولية الجنائية ووجوب إكسابها بعدا إنسانيا ليضع في الاعتبار المؤثرات التي يعيرها القاضي اهتماما باعتبارها مقياسا موضوعيا للمساءلة الجنائية، فقد يجد وراء الجريمة أسبابا وعوامل دفعت لارتكابها..) فمن أهم الأسباب وراء ارتكاب الجريمة بعد ضعف الوازع الديني الفقر والجهل، فضلا عن الغرر والاستدراج للوقوع في هوة الانحراف، ناهيك عن الإكراه الذي يعرف على انه: (حمل الغير على ما لا يرضاه من قول أو فعل بحيث لا يختار مباشرته لو خلي بنفسه) مع مراعاة ما ورد في تفسير الجامع لأحكام القرآن للقرطبي يرحمه الله في جزئه العاشر ص 183: (أجمع أهل العلم على أن من أكره على قتل غيره لا يجوز له الإقدام على قتله ولا انتهاك حرمته بجلد أو غيره ويصبر على البلاء الذي نزل به ولا يحل له ان يفدي نفسه بغيره ويسأل الله العافية في الدنيا والآخرة)، فالبعض قد يكون مكرها على ارتكاب المحظور فيما دون قتل آخر أو ما يضطر فيه الإنسان لرد اعتداء عليه أو دفع ضرر عن نفسه أو عرضه وماله ما قد يضطره لارتكاب جريمة، فالضرورة تقدر بقدرها.

2- التفعيل الفعلي للجنة أرباب السوابق والتي شكلت بناء على أمر وزير الداخلية رقم 14943 في 21-4-1399هـ من خلال عرض من تكرر منهم تعاطي المسكرات لثلاث مرات (وليكن عاماً وشاملاً لكل الجرائم) على اللجنة وذلك لدراسة حال السجين الذي تكرر منه شرب الخمر أو ارتكاب الجريمة ومعرفة العوامل النفسية والاجتماعية الحقيقية التي أدت به إلى تكرار ذلك ومن ثم معالجتها والعمل على إزالتها، ثم الحاقه بعمل يقتات منه.

3- التفعيل الفعلي لإيقاف تنفيذ العقوبات الصادرة بحق الجاني المنصوص عليها نظاما ضده فالعقوبات التعزيرية في الإسلام ليست واجبة في كل الأحوال خاصة بحق ممن يشهد لهم بالاستقامة وصلاح الحال فيزل أحدهم الزلة، وليست من طبعهم ولا أخلاقهم، والرسول عليه الصلاة والسلام يقول: (أقيلوا ذوي الهيئات عثراتهم إلا الحدود)، وفي هذا الشأن فقد نصت الفقرة الأولى من المادة الستين من نظام مكافحة المخدرات على انه: (للمحكمة ولأسباب معتبرة أو إذا ظهر لها من أخلاق المحكوم عليه أو ماضيه أو سنه أو ظروفه الشخصية أو الظروف التي ارتكبت فيها الجريمة أو غير ذلك مما يبعث على الاعتقاد بان المتهم لن يعود إلى مخالفة نظام مكافحة المخدرات النزول عن الحد الأدنى من عقوبة السجن المنصوص عليها نظاما، كما أن للمحكمة وقف تنفيذ عقوبة السجن المحكوم بها للأسباب نفسها ما لم يكن سبق ان حكم عليه وعاد إلى المخالفة نفسها ويجب ان يبين الأسباب التي استند إليها في الحكم في جميع الأحوال).. ولضمان استقامة الجاني ما أمكن وعدم عودته إلى ما بدر منه فقد شددت الفقرة الثانية من ذات المادة على أنه: (إذا عاد المحكوم عليه لارتكاب جريمة من الجرائم المعاقب عليها بموجب نظام مكافحة المخدرات خلال مدة ثلاث سنوات من تاريخ وقف تنفيذ العقوبة فللمحكمة إلغاء وقف التنفيذ والأمر بإنفاذها (أي العقوبة)، دون الإخلال بالعقوبة المقررة عن الجريمة الجديدة) أما الفقرة الثالثة فتؤكد على انه: (إذا انقضت مدة وقف تنفيذ العقوبة دون عودة المحكوم عليه لارتكاب إحدى الجرائم المعاقب عليها في النظام يعد الحكم الموقوف كأن لم يكن وتنقضي كل آثاره).. وما أشارت إليه وبكل وضوح الفقرة الثالثة من المادة الثانية والعشرين من نظام الإجراءات الجزائية التي نصت على انقضاء الدعوى الجزائية العامة متى ما كانت التوبة فيها بضوابطها الشرعية مسقطة للعقوبة، فأي إصلاح هذا بعد ذلك في أنظمتنا السعودية من خلال وقف تنفيذ العقوبات بحق الجاني أو الجناة لضمان إصلاحهم دون معاقبتهم وهذه المواد الإصلاحية في نظام مكافحة المخدرات التي تعد الأخطر على الجنس البشري والمحاربة دوليا بلا استثناء، وهي صلاحيات مطلقة بيد القاضي لتطبيقها بلا منازع، والصفح والعفو يرطب القلوب وعامل إصلاح ودافع للحياء.

4- التفعيل الفعلي لما نسمع ونقرأ عنها فقط دون ان نراها ونلمسها على ارض الواقع إلا من حالات نادرة ونادرة جدا ولاتزال حبيسة الأدراج دون تطبيق ألا وهي بدائل السجون لمرتكبي الجرائم البسيطة والمخالفات غير الواردة بقرار وزير الداخلية رقم 1900 وتاريخ 9-7- 1427هـ، فقد ثبت عن النبي عليه الصلاة والسلام انه جعل فداء بعض الاسرى ممن لا يملكون المال لفداء أنفسهم ان يعلموا اولاد الانصار الكتابة فدل ذلك على جواز الفداء بالعمل، وهذا من شأنه إصلاح الجاني من خلال ضمان عدم احتكاكه بالسجن بمجرمين محترفين ومن ثم تعلم الجريمة منهم، خفض التكاليف المالية على السجناء فالإحصائيات تقول ان الولايات المتحدة تنفق على السجين الواحد خلال العام الواحد ما يقارب عشرين ألف دولار بينما تنفق على الطالب الجامعي عشرة آلاف فقط، وايجابيات أخرى كثيرة ستعود بالنفع على الجاني وغيره، خاصة ان من العقوبات التعزيرية التوبيخ والتبكيت، الوعظ، العتاب، التهديد، وهذه رادعة لبعض بني البشر دون الحاجة لسجنهم.

أخيراً وليس آخرا يروى أن كعب بن سور كان جالسا عند عمر بن الخطاب فجاءت امرأة فقالت: ما رأيت رجلا قط أفضل من زوجي انه ليبيت ليله قائما ويظل نهاره صائما في اليوم الحار ما يفطر، فاستغفر لها عمر وأثنى عليها، فاستحيت المرأة وقامت راجعة فقال كعب بن سور: يا أمير المؤمنين ألا اعديت المرأة على زوجها إذ جاءتك تستعديك؟، فقال عمر: أكذلك أرادت؟، قال كعب: نعم، قال: ردوا علي المرأة فردت، فقال لها: لا بأس بالحق ان تقوليه، ان هذا يزعم انك جئت تشتكين انه يجتنب فراشك، قالت: أجل فاني امرأة شابة وابتغي ما تبتغي النساء، فأرسل عمر إلى زوجها فجاء فقال لكعب: اقض بينهما، فقال: أمير المؤمنين أحق بأن يقضي بينهما، فقال عمر عزمت عليك لتقضي بينهما، فانك فهمت من أمرهما ما لم افهم، فقال كعب: فاني أرى ان لها يوما من أربعة أيام، كأن زوجها له أربع نسوة فان لم يكن له غيرها فاني اقضي له بثلاثة أيام ولياليهن يتعبد فيهن ولها يوم وليلة، فقال عمر: والله ما رأيك الأول بأعجب من الآخر، اذهب فأنت قاض على البصرة.. وما أريد قوله هنا ان القاضي المحنك هو من يستطيع قراءة ملامح وفهم شخصية من يقف أمامه للمحاكمة، فالعقوبات الإلزامية من حدود وغيرها في الإسلام من سجن وجلد ليست عقابية بقدر ما هي إصلاحية تهدف إلى تقويم النفس، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

مفلح بن حمود مفلح الأشجعي - عرعر



 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

رأي الجزيرة

صفحات العدد