تعامل المخرج الأمريكي ريدلي سكوت مع موضوعات عربية وإسلامية أكثر من مرّة. إنه مخرج الفيلم التشويقي الجديد (كيان من الأكاذيب) أو Body of Lies الذي يبحث والعلاقة التي تربط بين عمل الاستخبارات الأمريكية في الشرق الأوسط والحرب على الإرهاب في فترة ما بعد 11- 9 وعدم تحقيق نتائج فعّالة في تلك الحرب لأسباب لها علاقة بسوء قراءة المسؤولين الأمريكيين للثقافة العربية وعدم ثقة كل طرف بآخر.
وهي ليست المرّة الأولى التي يقوم فيها المخرج سكوت بالتطرّق إلى موضوع عربي إذ لديه في هذا الصدد فيلمه عن الحملة الصليبية (مملكة السماء)، سنة 2005. في كلا الفيلمين نجده يحاول هو بنفسه قراءة العالم العربي قراءة أفضل من سواه. منح الشخصيات العربية، سواء أكانت حقيقية مثل صلاح الدين الأيوبي في الفيلم الأول، أو خيالية كما في هذا الفيلم وجوداً ملموساً يعبّر عن وجهة غير نمطية. وإذا ما كان لديه عدّة أمثلة وأنماط، فإن واحداً منها هو الشرير بينما للشخصيات الأخرى تدرّجاتها انتهاءً بالشخصية التي تستحق التأييد والإعجاب. صلاح الدين الأيوبي (الممثل السوري غسان مسعود) في (مملكة السماء) ومسؤول المخابرات الأردنية هاني (مارك سترونغ).
فيلم ريدلي سكوت الجديد هو عنوان كبير لموضوع يحتل رقعة كبيرة على الشاشة ويمتد على خريطة تنتقل به من مدن أمريكية إلى مدن عربية وأخرى أوروبية. رغم كل شيء لا يخرج المرء من الفيلم أكثر إلماماً أو أفضل اطلاعاً على رأي محدد بشأن المشكلة التي يُثيرها. الكثير من دخول وخروج الفيلم في عناوين مواضيعه المطروحة لا ينتج عنه أكثر من عمل آخر يمسح سطح المشاكل ولا يتعرّض لها. على ذلك، هناك كل ما يحتاجه الفيلم التشويقي صنع اليوم من عناصر وبل يوفّر قدراً كبيراً من التشويق ولو بشق النفس أحياناً.
الأمريكي البشع
اقتبس كاتب السيناريو وليام موناهان (كتب فيلماً آخر أدى بطولته ديكابريو هو The Departed الذي أخرجه مارتن سكورسيزي) من رواية وضعها ديفيد إغناتيوس، وهو صحافي من (واشنطن بوست) تدور في آن واحد عن شغل المخابرات الأمريكية ضد الإرهاب وعن الإرهاب الذي يعيش في بعض أنحاء الوطن العربي. ليس هناك ما هو ثابت في وقائع الرواية (ولا الفيلم) لكن استنتاجات خيالية مستمدّة من حقيقة واحدة: هناك إرهاب يعيش في أنحاء من دنيا العرب وهناك جهاز استخبارات أمريكي عليه أن يواجهه. وهو لا يستطيع مواجهته وحده بل عليه الاعتماد على شخصيات عربية تشارك الغربية موقفها المعادي من الإرهاب.
هناك شخصيّتان أمريكيّتان رئيسيّتان متصلتان بالهاتف وبالكومبيوتر: هوفمان (راسل كراو) الذي يدير جهازاً في السي آي إيه. رجل عائلة على قدر ملحوظ من البدانة (وافق الممثل زيادة وزنه للدور) لا يكف عن العمل ولا شيء، بما في ذلك الصداقة، تحول بينه وبين تحقيق نتيجة تنفع ال CV الخاص به، وروجر فيريس (ديكابرو) وهو عميل المخابرات على الأرض. الرجل الذي يضع حياته على كفّه طوال الوقت خدمة لذات الأهداف.
إذ تتوقّع أن تشاهد أمريكياً بشعاً (على حد تعبير غراهام غرين) إلا أن روجر ليس هذا البشع. إنه رجل يجيد العربية (نسمعه يتحدّث بها من حين لآخر) ويعترف بثقافة الآخر ولا يطيق التعذيب (لا حين يراه على الآخرين أو حين يتم تطبيقه عليه) ولديه قلب قد يعلق بحب إمرأة من خارج ثقافته وعالمه ودينه هي الممرّضة عائشة (غولشفته فرحاني) التي هي من أصل إيراني لكنها تعيش وتعمل في عمّان. هناك بعض الوقت تتساءل فيه إذا ما كان حب روجر لعائشة حبّاً حقيقياً أو أن جبالاً من الاختلافات ستقع في الهوّة بينهما ويأتي الجواب في غضون الفيلم ليعكس حبّاً صادقاً (مع نهاية ملائمة) فحين يصل إلى روجر خبر اختطافها من قبل الإرهابيين يعرض أن يتم استبداله بها معرّضاً كل المهمّة التي جاء من أجلها، ومعرّضاً حياته أيضاً، للخطر. لكن رئيسه يجد في ذلك فرصة كبيرة للوصول إلى الإرهابي الكبير الذي كان من المفترض بالمخرج الصديق محمد خان لعب دوره ورفض فقبله الممثل الإسرائيلي ألون بوطبول. دور صغير أسم صاحبه السليم ووجهه يحمل كل تلك التعابير الشريرة المطلوبة في مواقف مثل ذلك الموقف الذي يكسر فيه (السليم) إصبعين من أصابع يد ديكابريو اليمنى. وإذ يحفل المشهد بالتوقّعات إلا أن الفيلم في نهاية مطافه لن ينته ببطله بأكثر من تلك الإصابة ولو أن روجر يقرر في نهاية الأمر تسليم مهامه لكي يستمتع بحياة هنيئة في عمّان التي تقع فيها معظم الأحداث.
ممثلون عرب
يحاكي (كيان من الأكاذيب) الأفلام السابقة له التي تعاملت ومواضيع العلاقة الأمريكية - العربية مثل The Kingdom، Vantage Point، Syriana، Rendition وبعض سواها ويشاركها القرار بأن المسألة هي أعقد بكثير مما تبدو على السطح. لكنه يذهب قليلاً أكثر في القول أن الحرب على الإرهاب ليست حرباً يحقق فيها الطرف المعادي للإرهاب أي نصر. رئيس الجهاز هوفمان يتعامل مع الوقائع على الأرض بسلسلة من الأكاذيب التي تجعل عمل عميله روجر معرّضاً للفشل والخطر وتفقد ثقة رجل المخابرات الأول في الأردن هاني (مارك سترونغ) الذي كل ما يطلبه من السي آي إيه إن لا تكذب فيجدها تكذب في كل مبادرة ومعلومة. بذلك ينتقد الفيلم هوفمان نقداً واضحاً، لكنه ليس بثبات من يريد أن يُدين، بل برغبة من يريد خلق حالة من الفوضى أو التعبير عن فوضى كبيرة قائمة.
في إداء ليوناردو ديكابريو دروساً لسواه من ممثلي الصف الأول. يقدّم أداءً ينصهر فيها مع الشخصية كما يجب أن تؤدّى ولو أن الشخصية ذاتها كانت لا تزال بحاجة إلى بعض الصياغة خلال الكتابة. هنا يقدّم ديكابريو شخصية حسّاسة تعبّر عن خجلها من ممارسات قيادته المخادعة وعن احترامه للآخر. إنه يعرف أنه يعمل في مهنة قذرة لكنه يعلم أيضا أن إنقاذ الأرواح هو من بين ممارسات هذا العمل ويحاول إنجاز ذلك ويفشل وينجح لكن تبعاً لتشابكات كثيرة تقع بين الفرقاء الثلاثة: الأمريكيون، السلطات العربية والإرهابيين. الأبرز في أدائه هو أنه واقعي إلى حد كاف. سواه (لنقل توم كروز) كان سيفتعل ما يؤديه ديكابريو هنا بسلاسة أو كان سيعتمد على وسامته ونجوميّته و(تعالوا شوفو بعمل إيه) كما هو السائد بين كثيرين عرباً وأجانب هذه الأيام.
من الأسماء العربية في الفيلم علي سليمان لاعباً شخصية رجل عربي غير إرهابي يعمل في البورصة والبزنس العام تورطه المخابرات (بت خطيط من هوفمان) في عملية تفجير هو بريء منها لكنها تجذب إليه ذلك (السليم) الذي يقود عمليات القاعدة ما يعرّض الأول للموت. هذا الفيلم عن اللعب بالأرواح فعلاً. كذلك في الفيلم قيس الناشف في دور إرهابي طازج ينتقل للعمل لصالح المخابرات الأردنية. هذا الفيلم هو أيضا عن مناطق خداع كثيرة.
التوليفة بأسرها ناجحة، لكن الفيلم لا يضيف إلى ما هو معروف وملموس سوى أسلوب المخرج المكثّف من دون أن يكون المعمّق أو القادر على إيجاد رقعة لتحليل سياسي. صحيح أن كل ما يريد الفيلم قوله في هذا الشأن موجود في طيّات القصّة، لكن كم كان مفيداً لو أنه ذهب نصف ميل إلى الأمام لكي يمنح الفيلم بعض الصدق. ربما كان ذلك سيستدعي انفجارات وألاعيب تقنية وخطوط متشابكة أقل، لكنه كان سيمنح الفيلم قدراً مما كان يحتاج إليه أكثر من سواه: الانتقال من حالة فيلمية إلى حالة واقعية ولو بحدود كافية.
تنويع
الفيلمان، (كيان من الأكاذيب) و(مملكة السماء) مختلفان في تربة السينما الهوليوودية. الأول تشويقي- سياسي والثاني ملحمي تاريخي. لكن هذا الاختلاف ميّز كذلك بين العديد من أعماله. فهو انتقل من الصراع التاريخي، الفردي في أوّل أفلامه The Duelists سنة 1977 إلى سينما الخيال العلمي في فيلميه المتعاقبين Alien وBlade Runner إلى التاريخي مرّة أخرى في Legend (1985)، 1492: Conquest of Paradise (1996) إلى التشويق البوليسي في Someone to Watch Over Me (1987)، Black Rain (1989) ومر في سياق سينما التاريخ مرّة أخرى حين أخرج Gladiator ثم عرج على سينما الرعب في (هانيبال) (2001) وخاض الحرب في Black Hawk Down
والدراما في Thelma and Louise وMatchstick Men، G. I. Jane، White Squal ومن يتطلّع إلى مشاريعه المستقبلية سيجد المزيد من هذا التنويع، كما أن فيلمه السابق مباشرة ل (كيان من الأكاذيب) لم يكن سوى فيلم ينتمي إلى سينما العصابات وهو (أمريكان غانغستر).
وهو جيّد بشكل عام. جيد على النحو الحرفي وجيّد في تضمين سلعته قدراً من الفن عموماً وفنيّة المعالجة على الأخص مانحاً أعماله، في شكل عام، غطاءاً من ظلمة الليل كما لو أن أبطاله يعيشون كابوساً في أزمنة مختلفة ومواقع متعددة. Blade Runner على سبيل المثال هو أحد أفضل أعماله وأحد أفضل أفلام الخيال العلمي في السنوات العشرين الأخيرة الأخيرة. بطله (هاريسون فورد) رجل يبحث عن أعدائه من الفضاء الذين يستطيعون التحوّل إلى أشكال آدمية ليكتشف أنه هو ذاته منهم.
Alien عن امرأة (سيغورني ويفر) المشاركة في رحلة فضائية بعيدة يقتحم مركبتها وحش لا يمكن قهره ويستطيع اتخاذ أي شكل يريد.
والوحشة والدكانة ليست حكراً على أفلام سكوت الخيال- علمية بل على العديد من أفلامه ودائماً مع وجهة نقدية لا ينسى خلالها الإعراب عن ريبته في السلوك الذي يمارسه الأمريكيون ليس ضد الآخرين كما في فيلمه الحالي (كيان من الأكاذيب) وفيلمه البوليسي السابق (المطر الأسود(مع مايكل دوغلاس وآنذي غارسيا الذي تقع أحداثه في اليابان، بل كما في فيلمه المؤيد للمرأة (ثلما ولويس) مثلاً. لكن في الوقت الذي يريد أن يكشف فيه عبر أفلامه عن أمريكيين لا يرون أبعد من حاجز اختلقوه وهذا موجود حتى في فيلمه الحربي (سقوط بلاك هوك) فإنه لن يجيّر الفيلم ليخدم الآخر، فقط يريد أن يفتح له نافذة مختلفة يطل منها ويعبّر فيها عن ثقافته ومفهومه- إذا ما سمحت قصّة الفيلم بذلك.
في مؤتمر صحافي عقده في الدورة الأخيرة من مهرجان.نيسيا السينمائي الدولي قال لصحافة حين سألته عن رأيه في هوليوود اليوم كلاماً مهمّاً: (أعتقد أن الأفلام أصبحت أكثر غباءً من قبل. لقد كان ممكناً في الماضي من مشاهدة خمسين بالمئة من الأفلام الجيّدة وخمسين بالمئة من الأفلام الغبية. الآن هناك ثلاثة بالمئة فقط من الأفلام الجيّدة. الباقي كله غبي).
وهو أكمل مشيراً إلى حقيقة تجيب كل من قد يسأل عن السبب: (هوليوود هي صناعة. إنها ليست شكلاً فنياً، لذا على من فيها تأمين الحاجة الأساسية). وكما نعرف فإن الحاجة الأساسية هي التجارة، والفن الوحيد الذي تمارسه هوليوود، وليس بنجاح دائماً، صار فن التجارة.