Al Jazirah NewsPaper Wednesday  12/11/2008 G Issue 13194
الاربعاء 14 ذو القعدة 1429   العدد  13194
مركاز
ربع رغيف!
حسين علي حسين

يعتقد بعض المعارف أنني من الأثرياء، وهناك من يعتقد أنني من ذوي الدخول المقرودة، وهناك من يعتقد أنني ترابي، فلست أبيض ولست أسود، لكنني بين هذا وذاك، وكل هذه تهم لا أنفيها وشرف لا أدعيه، لكنها جميعها مبنية على ظنون، بعضها مني، وبعضها ممن يعتقدون، لكن الحقيقة أنني مررت بكل تلك المراحل، ثم استويت على البرزخ، آكل وأشرب وأتمشى في الأسواق وأترصد المقاهي في كل مكان، وعندما يحين الليل أتوسد كتاباً وأنام، وإن لم أجده فإنني أنام على قلق كأن السرير رياح تعصف تحتي!

من مظاهر الغنى المخجلة أنني كنت أهم مرة بالدخول إلى مكتب سفريات في أحد شوارع إسطنبول، في زحمة الباب، شعرت بيد كالسهم تدخل إلى جيب البنطلون، وبقدرة لا شعورية قبضت على اليد وهي في داخل جيب البنطلون؛ فبدت اليد الصغيرة التي أقبض عليها وكأنها فأر وقع في المصيدة، وعندما ازداد ضغطي على اليد الآثمة تذكرت، وصراخ الطفل يتعالى طالباً النجدة، أن كنزي الذي أغرى اللص ليس في جيب البنطلون، ولكنه في شراب الحذاء؛ فأطلقت اليد، فإذا هي لطفل صغير يوجه من بعيد على هذا الصيد العربي!

أما التي قبلها فقد كنت أقف في طابور لبيع السندوتشات في بلد عربي، كان قميصي محذقاً، وبنطلوني شارلستون والشعر على الكتفين (رزق الله على تلك الأيام التي لن تعود!) أخذت سندوتشاتي وبقدرة لا إرادية سلكت يدي في جيب القميص بحثاً عن سيجارة، لأجد اللص قد استولى على كل شيء؛ فحمدت له ما فعل، وتمنيت أن يبقي لي الورقة المالية رفيقة علبة التبغ!

سرقتان وغيرهما كثير، سببها فرط التأنق، وهو ما جعلني آنس للباس الرقيق؛ فوضع الرأس مع الرؤوس أفضل من رفعها!

وقد مررت بأيام هي أسود من قرن الخروب؛ فكنت لا أجد قيمة وجبة الغذاء، بل قطعت في أحد الأيام مشواراً أخذ مني ساعتين مشياً؛ لأنني ببساطة لم أكن أملك ربع ريال فقط لا غير هي أجرة الباص أو التاكسي في ذلك الزمان المبارك - كما يقولون - وقد كان غير مبارك عندي، لكن الأيام ليست دائماً عقيمة؛ فقد تغير الحال خلال أعوام بأحسن منه؛ فأصبحت أسكن في شقة من غرفتين وأركب سيارة كورولا وآخذ وجبتي من شارع الوزير، حدث هذا حالما توظفت وأخذت الانتدابات ترخ عليَّ مثل المطر، لكنني في لحظة صددت كل هذه الخيرات ورضيت من الرغيف بربعه، تاركاً الانتدابات، والطفرة، والوظيفة؛ لأعمل محرراً صحفياً، أنادم الجدران والورق لساعات طويلة من الليل والنهار، براتب لا يسمن ولا يغني من جوع، ولم أشعر بطعم الحرية إلا عند عودتي إلى حضن الوظيفة العادية، المشفية من الانتدابات وخارج الدوام والترقيات!!

وحتى هذه الوظيفة ما لبثت أن ضحيت بها في ساعة طيش؛ لأدخل بما في الجيب أطقطق مع المطقطقين في سوق الأسهم، وقد وجدت في هذا السوق خيراً وفيراً، أعاد لي أيام الطفرة التي عبرت في غفلة مني، فقلت إن فرحتي قد أتت وعليَّ أن أفتح عيني تماماً، لعلني آخذ ثأري من تلك السنين، وقد هطلت النقود مثل المطر، وكلما أتى ريال وضعناه على صاحبه، وألقمناه السوق، حتى حل فبراير الأسود؛ فوجدته كالقشاش ينقض - في أيام معدودات - على كافة المدخرات، وما جمعته النملة في عام أخذه الجمل في خفه خلال أيام.. آمنت بعد ذلك أن كل شخص مُسيّر لما خُلق له، والمؤكد أنني بعد كل تلك التجارب لم أكن مؤهلاً للثراء.. والحمد لله على الصحة والعافية!!

فاكس: 012054137


لإبداء الرأي حول هذا المقال أرسل رسالة قصيرة SMS  تبدأ برقم الكاتب 5137 ثم إلى الكود 82244

 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

رأي الجزيرة

صفحات العدد