Al Jazirah NewsPaper Wednesday  12/11/2008 G Issue 13194
الاربعاء 14 ذو القعدة 1429   العدد  13194
منطلقاتنا وتاريخنا في محاورة الآخر ( 1-5)
د. عبد الرزاق بن حمود الزهراني

رعى الملك عبدالله بن عبدالعزيز - حفظه الله - عدداً من اللقاءات والمؤتمرات المحلية والعالمية المتعلقة بالحوار الوطني، والحوار بين أتباع الأديان، وذلك بحضور جمع غفير من علماء المسلمين وغير المسلمين من مشارق الأرض ومغاربها.

.. ويأتي عقد تلك المؤتمرات في فترة يمر فيها العالم

بتغيرات كثيرة، من أبرزها اللجوء إلى العنف والقوة بدلاً من العقل والحوار والإقناع، يستوي في ذلك الأفراد، والجماعات، وبعض الدول، والتطرف في الغالب يلغي العقل، ويلغي الحجة، ويلغي سياسة الإقناع والحوار. وفي تصوري أن من يلجأ إلى العنف يفتقد ما يمكن أن يقنع به الآخرين، ويؤثر به فيهم، ومعروف تاريخياً أن العنف يولد العنف، والكره يولد لكره، والإقصاء يولد الإقصاء. ولقد كان الإسلام رائداً في استخدام الحجة والبرهان لإقناع الناس بالدخول إليه، وقد انتشر الإسلام في مشارق الأرض ومغاربها بقوة حجته وإقناعه، ومخاطبته للعقول، فدخل الناس فيه أفواجاً، ومن ذلك ما شهد به كثير من الغربيين وفي مقدمتهم الرئيس الأمريكي السابق بل كلنتون الذي ذكر أن الإسلام أسرع الأديان انتشاراً في أمريكا، ولعل الحملة التي يتعرض لها الإسلام اليوم ترمي ضمن ما ترمي إليه إلى إيقاف انتشار الإسلام في العالم، وترمي كذلك إلى دق إسفين بين العالم الإسلامي والغرب لخدمة أعداء المسلمين. ومن أجل ذلك كله فإن مؤتمرات ولقاءات الحوار المحلي والإقليمي والعالمي تأتي في التوقيت المناسب، ونأمل منها أن تخرج ببرنامج عمل يطبقه المسلمون في حوارهم مع الأديان والثقافات الأخرى. وفي هذه السلسلة من المقالات سوف أحاول أن أستلهم التاريخ حول موقف الإسلام في التواصل والتحاور مع الثقافات والديانات الأخرى، وما ورد في القرآن الكريم والسنة المطهرة حول هذا الموضوع، وما طبقه رسول الإسلام وخلفاؤه الراشدون في هذا الاتجاه، ولعل أبرز سمة من سمات الإسلام أنه دين عالمي، يؤاخي بين البشر في الإنسانية، وأنه دين عدل وسلام وتسامح، وهذا يعارض فلسفة الصراع التي كثر الحديث عنها في القرنين الأخيرين، فما كادت الشيوعية تخبو، ويخبو معها الحديث عن (صراع الطبقات) الذي وضع أسسه ونظرياته مؤسس الماركسية الشيوعية (كارل ماركس)، وخاصة في البيان الذي أصدره مع (فردريك إنجلز) بعنوان (البيان الشيوعي) والذي فسر فيه جميع أحداث التاريخ بأنها صراع بين الطبقات من أجل المادة والاقتصاد، ما كاد الحديث عن هذا النوع من الصراع يخبو حتى ظهر علينا أستاذ العلوم السياسية في جامعة (هارفارد) (صاموئيل هنتنجتون) بنظريته عن (صراع الحضارات) والتي أثارت الكثير من الردود والدراسات والندوات، وقد سبقت نظرية (هنتنجتون) بحوالي عشر سنوات دعوة (للحوار بين الحضارات) كان رائدها المفكر والفيلسوف الفرنسي المسلم (رجاء جارودي) الذي أسس في إسبانيا مركزاً لحوار الحضارات، ولكن الحديث عن حوار الحضارات لم يتنام إلا بعد سقوط المنظومة الشيوعية، وسقوط جدار برلين، وبعد حرب الخليج الثانية، وقد كان لظهور مقالة (هنتنجتون) عن صراع الحضارات، وظهور الفكرة الواهية والمتداعية عن (نهاية التاريخ) للأمريكي الياباني الأصل (فرانسيس فوكوياما) وظهور ما سمي آنذاك بالنظام العالمي الجديد دور بارز في تنامي الحديث عن تواصل الحضارات والحوار بينها.

ثم جاءت أحداث سبتمبر لتشعل الصراع، وتعجل بالصدام مع الإسلام والمسلمين، وقد استغلتها القوى الأمريكية الراغبة في الهيمنة والتسلط، والقوى الصهيونية الراغبة في خدمة إسرائيل، وفي إلحاق الأضرار بالعالم الإسلامي، واستخدمتها تلك القوى غطاء يعطيها الشرعية لتنفيذ مخططاتها، وأصبح هناك خلط كبير بين ما هو إرهابي وما هو إسلامي، حتى أصبح الارتباط بين الاثنين واضحاً ولا يمكن تغييره عند بعض القوى المعادية للإسلام والمسلمين.

ومن أجل كل ما سبق كان معظم الحديث عن حوار الحضارات آتياً من المجتمعات الإسلامية، فهل حديث المسلمين عن حوار الحضارات سببه ضعفهم وعدم قدرتهم على المواجهة والصراع، أم أن الإسلام بأسسه ومبادئه وتعاليمه العامة يدعم هذا التوجه ويدعو إلى التواصل والتفاعل الإيجابي بين المجتمعات والحضارات؟ لعل من أبرز خصائص الإسلام منذ انطلاق الدعوة اعترافه بالأديان الأخرى، والدعوة للتحاور معها، واحترامها واحترام من يدينون بها، وهذا لا يعني الاعتراف بشرعيتها.

فإذا كان الغرب، كما يقول محمد عابد الجابري في إحدى مقالاته، ينطلق من فلسفة تقول (الأنا مبدأ للسيطرة. والآخر موضوع لها) فبهذا تكون الذات مصدراً للعجب والاستعلاء ومن ثم السيطرة والهيمنة، ويكون الآخر هو المجال الذي تطبق عليه الصفات السابقة، أما في القرآن وهو المصدر الأول للتشريع في الإسلام فإن الغيرية تعني مجرد (الاختلاف) (وأنها بالتالي ليست ضرورية للوعي لوجود الذات، لأنها - أعني الغيرية في اللغة العربية وآدابها - تقع على مستوى الصفات فحسب، ولا ترقى إلى مستوى الجوهر).

وكلمة الآخر تعني غير المسلمين، أما من يدخل في الإسلام فإن مبدأ الأخوة يجمعه مع غيره من المسلمين على قدم المساواة.

والقرآن في نظرته للآخرين (غير المسلمين) ينطلق من مبدأ الاعتراف بهم كأهل دين، وحسابهم جميعاً على الله، وهذا ما تم بيانه في قوله تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَالَّذِينَ هَادُواْ وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحاً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ) (البقرة: 62). وإذا كان الإسلام يعامل البشر جميعاً على أنهم خلق الله، وأنهم ذرية آدم، وأن أصلهم واحد، فإنه يخص أهل الكتاب، والذين يتبعون الإسلام في صورته الأصلية غير المحرفة التي جاء بها الرسل جميعاً، يخصهم بمعاملة خاصة، فيبيح أكل طعامهم، وتزوج نسائهم، ويدعو إلى مجادلتهم بالتي هي أحسن، قال تعالى: {وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنزِلَ إِلَيْنَا وَأُنزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ} «العنكبوت: 46»؛ ولهذا بعث الرسول - صلى الله عليه وسلم - رسالة لطيفة ورقيقة إلى (هرقل) الذي لقبه - صلى الله عليه وسلم - (بعظيم الروم) ونص الرسالة يقول: بسم الله الرحمن الرحيم، من محمد عبدالله ورسوله إلى هرقل عظيم الروم سلام على من اتبع الهدى، أما بعد.. فإني أدعوك بدعاية الإسلام، أسلم تسلم، يؤتك الله أجرك مرتين، فإن توليت فإن عليك إثم الأريسيين {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْاْ إِلَى كَلَمَةٍ سَوَاء بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللّهَ وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللّهِ فَإِن تَوَلَّوْاْ فَقُولُواْ اشْهَدُواْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ}.

لقد عظم الرسول الكريم (هرقل) باعتباره زعيم الروم النصارى، ودعاه إلى الإسلام بأدب واحترام، ولم يلجأ للتعالي أو الاحتقار والتهديد، وحذره من الوقوع في الإثم، وهو بذلك يظهر الرغبة في هدايته، ويسعى إلى مصلحته، ثم يتلو الآية التي تعتبر دستوراً في التعامل والتواصل مع أهل الكتاب.

وفي الحرب التي نشأت بين الفرس المشركين، والروم النصارى، والتي هزم فيها الروم في الجولة الأولى، جاء القرآن ليبشر بنصر الروم، أهل كتاب، وهم أقرب الناس مودة للذين آمنوا، قال تعالى:{الم. غُلِبَتِ الرُّومُ. فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُم مِّن بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ. فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ الْأَمْرُ مِن قَبْلُ وَمِن بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ. بِنَصْرِ اللَّهِ يَنصُرُ مَن يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ} «الروم: 1-5». وتذكر الآية أن المؤمنين (أي المسلمين) سوف يفرحون بهذا النصر باعتباره نصراً لفئة مؤمنة من أهل الكتاب، على فئة مشركة، وهم المجوس.

ورغم أن القرآن نزل بالبشرى بنصر الروم النصارى، وخص أهل الكتاب بمعاملة خاصة، فإنه يبين أنهم قد بعدوا عن الدين الذي جاء به عيسى عليه السلام، وأن اليهود كذلك قد بعدوا عن الدين الذي جاء به موسى عليه السلام، وإن ما أنزل إليهما قد حرف وابتعد عن أصوله، ولهذا اقتضت حكمة الله إرسال نبي آخر هو محمد ليجدد دعوة الرسل قبله، ولهذا أنكر القرآن عليهم بعض عقائدهم المحرفة قال تعالى: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللّهِ وَقَالَتْ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللّهِ ذَلِكَ قَوْلُهُم بِأَفْوَاهِهِمْ يُضَاهِؤُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن قَبْلُ قَاتَلَهُمُ اللّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ. اتَّخَذُواْ أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُواْ إِلاَّ لِيَعْبُدُواْ إِلَهًا وَاحِدًا لاَّ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ. يُرِيدُونَ أَن يُطْفِؤُواْ نُورَ اللّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللّهُ إِلاَّ أَن يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ. هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ} (التوبة: 30-33).

ورغم أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - أرسل رسالة لطيفة إلى هرقل عظيم الروم، فإن هذا الأخير رد عليها بتسيير الجيوش للقضاء على الدولة الوليدة، وكأن عقيدة (الأنا مبدأ للسيطرة. والآخر موضوع لها) الغربية كانت موجودة من قبل ذلك الوقت؛ ولهذا عندما تغير الآخر وهم الروم في هذا المقام، من المسالمة، والاستماع للدعوة بالحكمة والموعظة الحسنة، وعدم الدخول في جدال بالتي هي أحسن، إلى شن الحرب ومحاولة القضاء على المسلمين، تغير تبعاً لذلك موقف المسلمين إزاء هذا العدوان وهذا الهجوم الرامي لاستئصال الدولة الوليدة. وقد بينت سورة براءة صفة التعامل مع الخائنين للعهود والمواثيق، وذلك بنبذ عهدهم {إِلاَّ الَّذِينَ عَاهَدتُّم مِّنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنقُصُوكُمْ شَيْئًا وَلَمْ يُظَاهِرُواْ عَلَيْكُمْ أَحَدًا فَأَتِمُّواْ إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَى مُدَّتِهِمْ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ} «التوبة: 4». أما من يستجير من المشركين بالرسول فإن الله يوجهه لإجارته وإعطائه الأمان حتى يسمع قول الله: {وَإِنْ أَحَدٌ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلاَمَ اللّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَعْلَمُونَ} «التوبة: 6». إن الآيات تصف حالة الحرب، وهي حالة تقل فيها الشفقة والرحمة، ويغيب فيها العقل أحياناً، ولكن القرآن يشدد على إعطاء الأمان من يطلبه من المشركين حتى يسمع كلام الله، وتبليغه مأمنه بعد ذلك إذا لم يظهر العداء ويقاتل المؤمنين.

وظل الغرب النصراني يكن العداء للمسلمين قروناً كثيرة، وقام بموجة الاستعمار الأولى التي عرفت بالاستعمار القديم، والتي بدأت في القرن السادس عشر بعد اكتشاف طريق رأس الرجاء الصالح في عام 1499م، وتلقتها موجة الاستعمار الحديث الذي بدأ في القرن التاسع عشر وانتهى شكلياً في القرن العشرين، وبقيت بعض آثاره المدمرة مثل قضية فلسطين، وكشمير، والشيشان، وغيرها من القنابل الموقوتة في العالم الإسلامي.

* أستاذ علم الاجتماع في جامعة الإمام، رئيس مجلس إدارة الجمعية السعودية لعلم الاجتماع والخدمة الاجتماعية


Zahrani111@yahoo.com

 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

رأي الجزيرة

صفحات العدد