Al Jazirah NewsPaper Tuesday  25/11/2008 G Issue 13207
الثلاثاء 27 ذو القعدة 1429   العدد  13207
إقصاء السنة النبوية أولوية في خطاب التكفير!
عبد الله بن محمد السعوي

تشكل السنة - بحسبها أحد نصوص الوحيين والمصدر الثاني للتشريع - في عمومها الإجمالي تجلية للقرآن، وامتدادا منهجيا له، وكشفا لوجوه دلالاته، وتعريفا لما يكتنزبه من آفاق متناهية الجمالية، فهو جاء بالكليات الشمولية والتقعيدات العامة وهي تولت تناول البعد التفصيلي

للمجمل في الكتاب العزيز، وإضاءة انبهامه الدلالي، وقد تظافرت المضامين الشرعية في نصوص الوحيين على حجية السنة ووجوب التناغم مع ما تحتويه من أدبيات والاشتغال على تجسيد ما تمليه من أحكام وما تحظ عليه من قيم أخلاقية وإرشادات توجيهية ويعتبر ذلك من موجبات علو سوية المستوى الإيماني وأحد أبرز لوازمه وبطبيعة الحال، إذا انتفى الملزوم انتفى اللازم، بالضرورة العقلية، التجسيد التطبيقي للسنة فرع عن وعيها ونتيجة للإلمام التفصيلي بمفرداتها وهذا ما صدف عنه الوعي المتلبس بفكر التكفير، هذا الفكر الذي افتقر إلى فقه الحديث، فتشكلت أمامه عتمة دلالية، حجبته عن معاينة المناحي القيمية الوضاءة التي يزخر بها النص النبوي، وتسببت في خلق مناخ قاتم يلف عالمه الفكري برمته، ومن ثم أتي من قبل جهله بالسنة النبوية الشأن الذي جعله يعتمد في حراكه الثقافي على جملة من الأحاديث الموضوعة أو الضعيفة كما يقول (الشاطبي) - رحمه الله - في معرض تقريره لبواعث اجتراح المبتدعة للمسالك البدعية، وتدنسهم بوضرها حيث أشار إلى أن من أبرزها: (اعتمادهم على الأحاديث الواهية الضعيفة والمكذوب فيها على النبي - صلى الله عليه وسلم - والتي لا يقبلها أهل صناعة الحديث في البناء عليها.. والأحاديث الضعيفة الإسناد لا يغلب على الظن أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قالها فلا يمكن أن يسند إليها حكم فماظنك بالأحاديث المعروفة الكذب) انظر (الاعتصام) (1-287 -288). إن خطاب التكفير كثيرا ما يدعي في أطروحاته ومجمل تناولاته التنظيرية أن السنة النبوية من أهم مصادر التلقي لديه وأنها ذات بعد حيوي مهم في تخلق قراءته الفكرية، وأنها أحد إطاراته المرجعية المعتبرة!، ولكن هذا الادعاء يتبين بعد امتحانه وابتلاء تماسك أرضيته الموضوعية أنه ادعاء أجوف، فهو لا يستند إلى حقيقة منطقية وليس له رصيد في الواقع على الأرض، إنه شعار خاوٍ لا نلمس له انعكاسات متعينة، إنه يتوخى بذلك إثبات مصداقيته، وشرعنة تناوله، وتدعيم مضائه الفكري عبر توسل غطاء مقدس، مع أنه في حقيقته يؤسطر النص الحديثي، ويتجاوز به ماهو معقول، ويسمح بإدخال معطيات لا واقعية في محتواه الدلالي، وليس أدل على مناهضته للواقعية، من أنه يقدم ذاته بوصفه فقط هو المسلم، وما عداه ممن لا ينسجم مع تطلعه الصدامي فهم والغون في الكفر، متردين في دركاته، ملتاثون بموبقه، وليس لهم من الإسلام حظ ولا نصيب!، إنه يقدم ذاته بوصفه البؤرة المشعة لكل حقيقة، هنا بقدر ما تجري مثلنة الذات، يتم تجريم الآخر!، ونزع الأنسنة عنه، ثمة احتكار للإسلام يجري في هذا السياق، ثمة تفسير مركزي مقدس للدين، كل من لا يلتزم به فهو خارج عليه!، منشق على أسسه!، بل آل بهم الأمر إلى أنهم يكفرون الناس بمجرد المعصية، كما يؤكد ذلك أحد زعماء التكفير وهو (ماهر بكري) حيث يرى أن: (كلمة عاصي، هي اسم من أسماء الكافر، وتساوي كلمة كافر تماما) انظر (كتاب الهجرة) 72 إن مثل هذا الادعاء بأن السنة ذات قيمة محورية لدى هذا الفكر، يقتضي رفع درجة العناية بالسنة وإيلائها مزيدا من الاهتمام الخاص وإنفاق طاقات وفيرة من النشاط الذهني المكثف للتثبت والتوثق من صحة الأحاديث عبر التمعن المعمق في أسانيدها وإنعام النظر في رجال السند والبحث عن مدى العدالة التي يتوافرون عليها والتأمل بدقة في اتصال السند، فإلاسناد هو المرقاة التي يُصعد بها إلى الحديث وهذا ماحدا بأرباب الاختصاص إلى اعتباره من الدين، يقول (علي بن أبي طالب) رضي الله عنه وأرضاه: (انظروا عمن تأخذن هذا العلم فإنما هو الدين) انظر (الخطيب) في (الكفاية في علوم الرواية) (196). إن مجموعة كبيرة من الأحاديث التي تستدعيها القراءة التكفيرية، وتوشح بها نسيجها الرؤيوي، وتستنبط منها ما ترى أنه يدعم منطقها الاستدلالي، ويعلي من سوية تماسكها المنطقي، هي في الواقع عند أدنى تمعن أولي، يتجلى تهافتها وافتقادها لفاعلية تأثيرها وأنها لا تشكل حجة للبرهنة، بفعل خلوها من مجمل الماينبغيات الحديثية، الأمر الذي أفقد هذه الشريحة التواصل الحقيقي مع النص، فعاشت في غربة عنه، وارتبكت في منهجها القرائي، ويظهر ذلك من خلال عدة أمور، من أبرزها، أمران؛ الأول: من جهة الصياغة العباراتية، والمنطق اللفظي، الثاني: من جهة السند وهشاشة اتصاله، الشأن الذي ينم عن هزال في الملكة الحديثية، ويشي بوهن اتصالهم بالنص النبوي، وتدني وعيهم الفقهي لمحتوياته. إن صوابية المعطيات المستنبطة، وصحة الحقائق المعرفية المستقاة من الحديث النبوي، مشروطة بالتلقي السليم له، ومرهونة بالوعي الموضوعي لطاقته الإيحائية، والاستيعاب الإدراكي المتكامل لصريحه وضمنيّه، والذي بدوره عائد إلى أمرين: الأول لابد من تركيبة ذهنية فاقهة للصيغة اللغوية للنص، ومن المتعذر النفاذ إلى الإطارات الدلالية لهذه اللغة ما لم تتوفر بصيرة شمولية وإحاطة عامة بمفراتها وجملها التركيبية كما يؤكد ذلك (ابن تيمية) - رحمه الله - حيث يرى أن (معرفة العربية التي خوطبنا بها مما يعين على أن نفقه مراد الله ورسوله لكلامه، وكذلك معرفة دلالة الألفاظ على المعاني) انظر (الفتاوي): (7-116)، الثاني: إدراك مرامي الشارع وفهم مراد الرسول - صلى الله عليه وسلم - من تلك اللغة التي استعملها ووعي مغزاه من تلك العبارات المفرداتية، وهذا يكون بمعرفة عادته في الخطاب ذلك أن اللفظ يكون له معنى في أصل اللغة ولكنه إبان استخدام الشارع له يكون محولا إلى معنى آخر أخص منه أو أعم. إن كثيراً من المكونات الأيديولوجية التي سارت على نحو معاكس للنسق العقدي للأمة كان باعثها على ذلك هو الابتسار الانتقائي، والفهم المشوه للنص، والترجمة غير الأمينة لفحواه، وعدم إطلاقها العنان لفاعليته، وهذا يعزى إما لانحسار مساحة الوعي بدلالة المفردات من ناحية اللغة، وإما من ناحية تضاؤل حجم مستوى فقه مقاصدها في استخدام الشارع، وتبعا لذلك يجري إعادة إنتاج معطيات علمية مستكرهة، وتوليد أسس مفاهيمية، النص - إن بمنطوقة أو بمفهومه - منها براء!، يجري ذلك عبر مقاربات هيرمينوطيقية يتم من خلالها تزوير الحمولة المعرفية للطاقة النصية، وإكراهها على البوح بما لا تنطوي عليه، وتحريف ظلالها الإيحائية، وشيخ الإسلام يذكر أن: (عامة ضلال أهل البدع كان بهذا السبب فإنهم صاروا يحملون كلام الله ورسوله على ما يدعون أنه دال عليه، ولا يكون الأمر كذلك) انظر (الفتاوي) 7-116) هذه الشريحة التكفيرية التي تزعم أنها تنبعث على ضوء النص، يقف قبالها شريحة أخرى، أقصت السنة عن إطارها الطليعي كمصدر مهم للفهم والتوليد المعرفي، فهي لا تعترف أصلا بالحديث النبوي بل تنبذه، وتضعه خلف ظهرها، وتغرد خارج حدود منظومته، وتزعم أنه لا ينطوي على أي قيمة دلالية، إنها تعمل على إطراح السنة النبوية وعزلها عن التأثير وعدم الاحتكام إلى إملاءاتها في أي شأن من شؤون الحياة وتقتصر على القرآن بمفرده كمصدر وحيد للتشريع، إنها لا تعي أن السنة كمرجعية معرفية هي أحد المكونات الأساسية في بناء شخصية المسلم، وأحد أبرز المصادر الرئيسية الناظمة لمسلكه وتصرفه، والموجهة لفعله وتفاعله، الشأن الذي آل بهم إلى ضرب من الفعل التأويلي الموغل في مناوءته والحاد في مباينته للنص القرآني ولذا أنكروا الرجم والمسح على الخفين لأنهما لم يردا في القرآن، وقطعوا يد السارق بغض النظر عن كمية ما سرقه، وهل هو قليل أو كثير، لأنهم يرون أن الأمر بقطع يد السارق ورد في القرآن على نحو مطلق غير مقيد، وهكذا فهم أرادوا مقاربة النص القرآني، فإذا بهم ينأون عن حقيقته، يخرجون عن سياقه العام، ويستدبرون آفاقه المقاصدية، ويفرطون في التجديف بعيدا عن فضائه المعرفي!.



abdalla-2015@hotmail.com

 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

رأي الجزيرة

صفحات العدد