Al Jazirah NewsPaper Saturday  06/12/2008 G Issue 13218
السبت 08 ذو الحجة 1429   العدد  13218
ليبرالي لكن وهابي
عبدالعزيز السماري

تختلف أنماط التفكير من ثقافة إلى أخرى، ويكمن اختلافها في قدرتها أن تكون موضوعية ومتصالحة مع مبادئها، أو تكون مفرطة في الإيجابية أو في السلبية أو تكون اختراعا جديداً ليس له سابقة في تاريخ الإنسان على وجه الأرض، ويأتي معيار هذا

الاختلاف وتنوعه وربما شذوذه حسب مرجعية وتركيبة الثقافة في العقل الجمعي في المجتمع، ففي المجتمع الديموقراطي مثلاً يحرص الإنسان دائماً ألا يقدم أفكاره بشكل عقدي متزمت ومتطرف، أو تقديم التيار الذي ينتمي إليه على أنه الحل الأبدي مهما ظهرت دلالات أو براهين تدل على عكس ذلك..

لكن في المجتمع المتدين تختلف نمطية التفكير عن الديموقراطي، وتظهر بنية التفكير العقدي في مختلف تيارات الرأي، وأبسط مثال على ذلك ما يحدث مثلاً في صحافة الرياضة المحلية، فالمنطق هناك ليس له وجود، ولا يعترف بالمقدمات المنطقية أو البرهان العقلي، لكن يتم بناؤه على انتماءات هلامية تحكمها خطوط حمراء لا يمكن أن يتجاوزها صاحب الرأي الرياضي..، ويعتبر هذا النمط في التفكير تطبيقا خاطئا لمنهج الإيمان العقدي الديني الذي لا يسمح للمنطق أن يعقلنه ثم يقدمه بموضوعية، إذ لا يمكن التعامل مع الانتماء الرياضي من خلال منهج الانتماء الديني الآحادي..، ولا بد للموضوعية أن تسود في الطرح الرياضي على سبيل المثال..

قال شيخ الإسلام أحمد ابن تيمية :(فإني كنت دائما أعلم أن المنطق اليوناني لا يحتاج إليه الذكي ولا ينتفع به البليد).. كان موقفه في غاية الحزم ضد المنطق و القياس البرهاني في مسائل العقيدة و الغيبيات، وبالتالي لا يمكن إخضاع العبادات و الأحكام الفقهية والفتاوي لمنطق العقل..

لكن هذا الموقف القطعي من المنطق في تراثنا الديني انسحب على مختلف أنماط التفكير غير الديني، وأصبح الإنسان يميل إلى التعبير عن رأيه من خلال منطلق عقدي في شئون الرأي والرياضة والثقافة والسياسة والعلم أحياناً كما هو الحال في قضية أسلمة العلوم....

كذلك يظهر هذا النمط العقدي في التفكير بوضوح في الطرح الثقافي وفي ساحات الرأي إذ يندر أن قرأت نصاً من عالم ديني ينتقد فيه بعض الممارسات التي تُرتكب باسم الدين في المجتمع، وقد تخالف الأصول التي يؤمن بها قطعياً، وعادة ما يلتزم الصمت إذا حدث خطأ في الممارسة من أجل الحفاظ على وحدة الصف ضد الآخر، والعكس هو صحيح أيضاً حيث لم أقرأ لمثقف يُقدم نفسه على أنه ليبرالي تقدمي أي نقد أو مراجعة للمبادئ التي ينطلق منها ويبشر بها بين الناس..

حتى أولئك الذين هربوا من أقصى اليسار إلى آخر زوايا اليمين المتطرف لم يُكتبوا عن تلك الرحلة، ولم يقدموا لنا تبريراً مقنعاً لهذا التحول المعاكس، وعن تجربة خروجهم المفاجئ ثم هروبهم الجماعي بعد سقوط جدار برلين الذي ظهرت في تبنيهم الشهير للإطروحات المضادة ما إن وطأت أقدامهم ميدان الليبرالية الغربية، وفي إشهار أقلامهم للدفاع عن مبادئ رأس المال والحرية الاقتصادية والاجتماعية على أنها أصول غير قابلة للنقد والمراجعة..

بينما للأمانة العلمية كتب بعض المتحولين من التيار السلفي المتشدد عن رحلتهم إلى الليبرالية لكنهم ما إن وصلوا إلى شاطئها حتى التزموا بأصول الليبرالية، وصاروا بمرور الوقت عقديين للنخاع في موقعهم الجديد.. ولم يتخلوا عن التفكير العقدي عند طرح آرائهم الجديدة..

لكن ما قد يعطل كل أساليب التفكير المنهجية واللامنهجية هو ما يتداوله بعض المراقبين للحراك الثقافي المحلي عن وجود تيار ليبرالي وهابي أو اتجاه ثقافي يمزج بين الليبرالية والوهابية ثم يقدمها كبديل للوهابية التقليدية التي لم تعد بعض أفكارها ومواقفها المناهضة للحضارة الغربية صالحة لهذا الزمن، والليبرالية الوهابية مصطلح يرفضه المنطقيون أو اللامنطقيون، وسيتم رفضه في مختلف المدارس الفلسفية، وعند جميع التيارات والأنساق الثقافية التي نشأت على الكرة الأرضية منذ الأزل..

إذ لا يمكن بأي الحال أن يجتمع نقيضان في تيار ثقافي أو سياسي، وإذا حدث ونجح في تقديم أفكاره فهو بكل تأكيد تيار استثنائي في كل شيء، ويحتاج إلى دراسة دقيقة ومتأنية من قبل علماء الحفريات المعرفية لفهم نسق تطور هذا المخلوق العجيب..

لكن المؤشرات المثيرة للاهتمام تتحدث بالفعل عن نشوء وصعود تيار ليبرالي وهابي بعد أحداث11 سبتمبر، وأنه أضحى واقعاً وحقيقة في أوساط الأجواء الثقافية المحلية، وأن التيار له مريدون وأنصار وأتباع، ويحظى بمتابعة دقيقة من المهتمين بميلاد الأنساق الثقافية الجديدة، ولا يزال النسق الاجتماعي والثقافي لهذا التيار غير واضح المعالم للجميع، لكنه بالتأكيد يعتبر (فلتة) ثقافية محلية ليست لها سابقة، وتستحق المتابعة والدراسة من قبل المهتمين بنشوء التيارات الجديدة..

ستكون الدهشة في أوجها عند محاولة تحديد أصول هذا التيار، وعن أي أصول أو مبادئ يتعصب بها أو يرتبط بها كأصول عقدية متوافقة مع دعوات(اللبرنة) الاجتماعية التي يقدمها للمجتمع، لكنني أكاد أجزم أن موقف مؤسسي هذا التيار من المنطق والعقل سيكون أشد من موقف شيخ الإسلام ابن تيمية منهما..



لإبداء الرأي حول هذا المقال أرسل رسالة قصيرة SMS  تبدأ برقم الكاتب 6871 ثم إلى الكود 82244

 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

رأي الجزيرة

صفحات العدد