Al Jazirah NewsPaper Saturday  06/12/2008 G Issue 13218
السبت 08 ذو الحجة 1429   العدد  13218
روحانية الحج
عبدالله بن محمد السعوي

لو تأملنا بصورة معمقة في الحج كرحلة حركية منطوية على كل معاني الانفتاح على الرب - تعالى في سماه - وكنشاط تعبدي مترع بالمناخات الروحية - يعد تركه بالكلية خروجا على عمق الالتزام الإسلامي - لألفينا أن ثمة قيما إيحائية عديدة

تتضمنها مناسكه، الأمرالذي يحتم علينا استلهامها؛ حيث نجد أن المحرم عندما ينزع ثيابه للاغتسال فهو ينزع معها كل نوازع الأنا الدنيئة ويتجرد من كل ما يعكر نقاء طويته، ومن كل مايعرض عمله الصالح لخطر الرفض، ومن ثم يمارس غسلا كاملا للذات فينقيها من كل دنس معنوي، ويطهرها من كل باعث يحدوها إلى التخفف من القيود الأخلاقية، والتغاضي عن الصوت الفطري المنطلق من أعماق الضمير، الإحرام كفعل استهلالي يفيد في مدلوله ضرورة تجافي المحرم عبر الصيام عن ضروب كثيرة من المألوفات الذاتية في مجالات الأكل واللبس والتجمل وألوان الاتصال الجسدي؛ في الإحرام يجري إعلان التمرد على عبودية العادة - طبعا خيرعادة، ألا يكون للإنسان عادة - والتأبي على إكراهات المألوف فلايكون مسترقا له ولا خاضعا لتحكمه. لقد شُرع الطواف حول البيت واعتبر ضربا من الصلاة المتحركة ليستشعر معه الحاج جو الصلاة وما تزخر به من مد روحاني يورث توثبا نفسيا متصاعدا نجد صداه العميق في المتلبس بهذه العبادة حيث شاء الله أن يكون البيت - في مفهومه الروحي المتصل بالله لافي منحاه المادي المتمثل في تكوينه الحجري - رمزا للاتساق بين البشر وللإيحاء بأن السلوك العام للفرد لابد أن يستحيل إلى طواف يتمحورحول مقتضيات عبوديته لبارئه وحول متتاليات التماهي المطلق مع أدبيات الحركة الرسالية للأنبياء عليهم السلام؛ الطواف بمنحاه الحركي ليس إلارسم دائرة محدودة في طاقة جغرافية متواضعة في مداها الاستيعابي يبدأ بالدوران المتكرر في إطارها، لكن الطواف في بعده الإيحائي يعني أن طوافنا سيكون ببيت الله فيما يرمز إليه من عبادة الله، وسلوكنا العام سوف يكون طوافا حول مراداته، ودوارنا في فلك عبادته، هذه العبادة تتخلق عبرالعقيدة الموضوعية والسلوك العملي المتناغم مع معطيات الوحي السماوي. وشرع كذلك السعي بين الصفاء والمروة ليؤصل في تركيبة الوعي المؤمن أن خطواته لابد أن تكون محسوبة وتحركاته لابد أن تكون مؤطرة وأن يتوجه سعيه الحياتي بكافة تمظهراته صوب الحقول المكتظة بألوان الخيرية إنه هنا يمارس السعي لا لموجب إلا لأن خالقه ندبه لذلك ولذا فهو يسعى لينعم بتقربه منه الشأن الذي يشي بأنه ينبغي علينا أن نباشر السعي في مجالات شتى في كل مجالات الحياة وفي كل أبعادها الاجتماعية والاقتصادية والسياسية للفوز بتحسين المستقبل الأخروي. مقتضيات السعي المنطقي تفرض علينا ضرورة السعي في سبيل شعبنة المعاني الراقية والأخلاق الجميلة التي باتت في منأى عن الحراك اليومي لشرائح غيرقليلة من البشر. أيضا شرعت الوقفات في عرفات ومزدلفة ومنى وهي وقفات تأمل في عرفات النفس، يخلو فيها الإنسان بذاته يدنو منها، يتحسس متطلباتها الفطرية، يديرمعهاحوارا داخليا فيبدأ بمساءلتها ومحاسبتها، مركزا على إحياء المعاني الإيمانية فيها، إنها وقفات في مزدلفة الذات، يلتقط المرء فيها أنفاسه فيسترجع شريط حياته ويستعيد تفاصيلها ويبحث عما فقده من مبادئ جردت حياته من أسمى مقوماتها، هذه المبادئ التي قد يتجافى عنها في ظل بُلَهنية آل إليها تماديه في سبيل تأمين سبل عيشه وفي ظل التحديات المتفاقمة استشراء والتي تحيط بإنسان العصر وتكرس فيه شروط القابلية للانحسار الذاتي إنها وقفات في منى الأنا، وفي حال توظيفها على النحوالسليم من شأنها أن تكفل للمرء الأوبة العاجلة إلى خطه المستقيم في الحياة وتخلصه من عوامل الوهن وتؤسس للشروط الموضوعية المكينة التي تؤمنه من الانتكاس وتقيه التقهقر في متباين مناحيه؛ إن الإنسان عندما ينغمس اندماجا في مناخات الحركة في الحياة في أي موقع من مواقعها فلابد له من استراحة فكرية يقرأ فيها أناه فيباشرعبر محاكمة عقلية سديدة إجراءات حسابية للأرباح والخسائرليقف عن كثب على حقيقة سيره في هذه الدنيا ولئلا يغفل في خضم حراكه الحياتي عن الحيثيات السالبة في شخصيته وليقيّم ومن ثم يقوّم دوره العام.

أيضا شرعت التلبية هذا النداء الذي ينطلق من كل حناجرالحجيج، نداء يردده الحاج في حركاته وسكناته ويتفتح من خلالها على عمق التوحيد في صفائه ونقائه والوفاء بميثاق الفطرة الملزِم.

والالتزام بخط العبودية بحسبهاحركة تجسيد عملي لمقتضيات الايمان في واقع الحياة؛ إن الحاج إذ يؤدي التلبية يتناغم مع كل مفردات الكون الهائل التي تلبي معه نداء الخالق، الوجود بكل موجوداته يضج بالتلبية ومن يحجم عن السير في خط التلبية التوحيدي أو ينفصل عن الانخراط في جادته فقد بات نشازا في هذا الملكوت الكوني، كذلك شرعت الاضحية اقتداء بنبينا إبراهيم عليه السلام الذي ضحى بعواطفه الأبوية في سبيل الحصول على رضا مولاه، هذه الشخصية الابراهيمية مدرسة تربوية مازلناولن نزال، ننهل من عطاءاتها الثرة؛ الأضحية رمزحي للتضحية والعطاء وتوجيه غير مباشر إلى ضرورة بذل كافة الوسع للتحكم في نوازع الذات وعدم الإذعان لها والعمل وفقا لهذه الروح الأبية واعتبار هذا هوالخط العملي الذي يجب أن تسيرعليه الحياة.

وكذلك شرع الرجم الذي يفترض أن نستوحي منه إيحاءات وظلالات متعددة من أبرزها أن نستحضر وبشكل مستمرالعداوة اللدودة من الشيطان للإنسان وأنها عداوة يجري تحديثهامن قِبله في كل برهة فهي تتجدد تجددا ذاتيا وتتمدد في كل اتجاه، فالشيطان - الذي بلغ في الشيطنة ذروة سنامها - يملك مهارات فائقة في ميدان الفعل التخريبي، ولديه قدرات نوعية مذهلة في التحايل والتغرير والاستغفال والتحريش وفي كافة أنواع السلوك التمويهي على الإنسان لتعويق عملية تكامله والحيلولة دون اطراد تساميه.

إن الحاج عندما يؤدي هذا النسك من موضع الوعي المسؤول فإنه في النهاية يعود من رحلته إنسانا آخر في منطلقاته وغاياته وخطواته الذين يؤدون مناسك الحج جماهير غفيرة وحشد عظيم وأعداد هائلة لكن جملة كبيرة منهم لا تؤديه بآلية واعية فلا تتحرك في عمق القيم الروحية للحياة ولاتوجه كبيرعناية إلى المحتوى الباطني للحج بقدرما تصرف عنايتها إلى القالب الظاهري للنسك ذلك القالب الشكلي الخاوي من الروح والمفتقر للمعنى.

إن هذه الفريضة العبادية تسقط معهاكل الفوارق الطبقية واللونية والعرقية والإقليمية من خلال الوحدة في كافة تجلياتها، وحدة اللباس ووحدة الطاقة الجغرافية التي يجري الوقوف على امتداداتها ووحدة الممارسة الحركية ووحدة الأطر التعبدية ووحدة التطابق التام في آلية التنقل وأشكال الترحال، عبرهذه العبادة تذوب الفوارق من أي نوع كانت ويصبح الجميع سواسية، خط العبودية هوالقاسم المشترك الأكبر بينهم، هنا تتوارى آل أنا لصالح آل نحن ويخفت الحس الخاص إرهاصا لحضور الحس العام وينفتح الكل على الكل ويراعي الجميع صالح الجميع وتبدو الوحدة البشرية في أبهى حللها، هذه الوحدة التي لو توفرت شروط استمرارها لكانت أفضل آلية تكفل للأمة مبارحة وضع الانحطاط والتخلف والغثائية الحضارية.

إن للحج دورا رياديا حيث يمثل الملتقى الروحي الأكبر للمؤمنين فيباشرون الصيغ التعبدية وتتعزز فرص تواصلهم وتتضاعف جراء تجمعهم إمكانية التداول في متباين قضاياهم الحيوية التي تتحرك في واقعهم الخاص والعام ويجري إتاحة ميدان أكبرلعملية التثاقف والتفاعل المعرفي وفتح آفاق إضافية للعملية التحاورية فيتحاورون فيما يتباينون في آلية معاينته من تفاصيل العقيدة ومفردات الشريعة ومكونات المنهج وكافة القضايا الحيوية المصيرية المتصلة بالواقع الكلي وهكذا تستحيل هذه المناسك إلى مؤتمر إسلامي عالمي له امتداداته الحضارية في الواقع الحياتي المسلم.

إن الحج يساهم وعلى نحوكبير في حل مشكلة الفقر وإيجاد حالات من ضروب التكافل الاجتماعي وذلك من خلال تلك الأرقام الهائلة من الاضاحي التي ندبنا إلى أن نطعم منها (البائس الفقير) الشأن الذي يؤكد ان التشريع الإسلامي يروم تنمية الحس الإنساني عبرالحظ على استثمارتلك الثروة الحيوانية وعدم تبديدها وإهدارها، والتعاطي معهاكمكتسب تجب المحافظة عليه والانتفاع منه بشكل فردي أو جماعي واعتبار هذا الرصيد الحيواني الضخم من أعظم المشاريع الإغاثية التي تؤدي دورا حيويا في مجال مقارعة العوز وتضييق دائرة الفقر وتحجيم امتداداته المتنامية في كل اتجاه.

إن الفوائد الناجمة عن تأدية مناسك الحج أكثر من أن تحصر ولكني أرقم شيئا منها على سبيل الإجمال كالتالي:

أولا: تعميق الارتباط ببارئ الوجود - سبحانه - من خلال المزاولة المستمرة للذكر فتشف الروح وتكتسب المزيد من اللمعان ويتفتح الإدراك ويبلغ الفرد أعلى درجات الاشراق التي تنعم بها الروح؛ هذا الانقطاع التام للعبادة، والانغماس في أجوائها والعيش تحت ظلالها الوارفة، والتكرار المتواصل لتنويعاتها يضفي جوا إيمانيا يلطف من جفاف الروح ويرطب من يباسها ويضيء حندسها الحالك ويدفعها صوب آفاق الرفرفة ويترك بصماته على متباين مكونات الكينونة التي تتنعم بأمان روحي لا توفره إلا تلك الوشيجة الوثيقة بالخالق واستشعار معيته في كل آن.

ثانيا: التضحية في سبيل الله: إذ إن الحج كدورة تدريبية كبرى للبشرية لتدريبها على الامتثال لأوامر الله والتخلق بمقتضى صفاته غالبا ما يرافقه إنفاق طاقة عالية ومكابدة عناء وبذل جهود مكثفة خصوصا إذا كان الحاج يقصده من بقعة جغرافية نائية المدى ولكن الحاج يتجشم هذا العناء موطنا ذاته على أن ثمة ربحا وفيرا لايقدر بثمن قبال هذه الأنشطة المضنية وهذا ما يحدوه إلى استصغار العظائم واستعذاب المشاق التي تتوارى في ظل هذه الأجواء المفعمة بالروحانية وهذا الجو الخاشع المحاط بالرحمة الالهية والمعية الخاصة.

ثالثا: التفرغ للعبادة فالحاج قد تمحض على نحوصِرف للتلبس بالشعائر التعبدية وأسلم نفسه وحياته بكل لحظاتها وتفاصيلها وحركاتها وسكناتها لمولاه، قد تجرد من كل الصوارف وتحرر من مختلف الحجب وفوض شؤونه كلها إليه إنه يعيش منتهى التجريد القلبي الذي تنعكس إشعاعاته الإشراقية على حياته فيلمسها عن كثب ويشعر بها مرتسمة في أعمق أعماقه اللجية.



Abdalla_2015@hotmail.com

 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

رأي الجزيرة

صفحات العدد