Al Jazirah NewsPaper Wednesday  10/12/2008 G Issue 13222
الاربعاء 12 ذو الحجة 1429   العدد  13222
أجندة من الأندلس: ملحمة السيد القمبيطور، عربية

حينما كان المرابطون بقيادة يوسف بن تاشفين مشغولين بالقضاء على ملوك الطوائف المتخاذلين وفي الزمن ذاته حين انهار ملك بني الافطس ومن قبلهم بني عباد، سقطت بلنسية في يد رودريقو دياث دي بيبار أو السيد القمبيطور كما تعرفه المصادر العربية، الذي تحول من طريد قاطع طريق إلى سيد بلنسية المطلق وأحد الأبطال الإسبان ذوي الملاحم الشعبية الخالدة.

(السيد) هو اللقب الذي منحه العرب لهذا الفارس القشتالي لقاء فروسيته على الرغم من المآسي والفظائع التي خلفها في نفوس المسلمين إبان حصار بلنسية وبعد استيلائه عليها.

في (مدونة التاريخ العام) الذي كتبه أو أشرف عليه ألفونسو العاشر الملقب بالحكيم والتي عكف على دراستها المستشرق الهولندي الكبير (دوزي) لحظ هذا أن القسم الأخير من المدونة يتحدث عن السيد القمبيطور وحصار بلنسية ويذكر تفاصيل دقيقة عن سقوط المدينة هي في الحقيقة،كما خلص دوزي وتابعه المؤرخ الإسباني الشهير منيندث بيدال، نقولات من الكتاب العربي المفقود (البيان الواضح في الملم الفادح) لأحد الأفاضل من أهل بلنسية الذين عاشوا محنة الحصار والسقوط واسمه ابن علقمة.

لقد شغل الباحثون زمنا بالمرثية التي تضمنتها تلك النقولات مترجمة للاتينية وحارت الجهود في معرفة مؤلفها الذي وردت الإشارة إلى اسمه بصيغ متباينة حتى تمكن المستعرب البلنسي الشهير خوليان ريبيرا من تحديد هويته. إنه أبو الوليد الوقشي، من وقش قريبا من طليطلة التي ترحل عنها بعد سقوطها في يد ألفونسو السادس. شهد سقوط بلنسية ورثاها وعرف بعد ذلك صديقا ومستشارا للسيد وهو المأخذ الذي نبز به حين ترجم له ابن بشكوال في الصلة وعليه ألصق بسيرته جملة من الأساطير التي لا يتسع المقام لسردها أو الحديث عنها.

ليس هذا التقصي موضوعنا ولكن يحسن التنبيه إلى أن هذه المرثية ربما لقيت رواجا في وقتها وكما تداولها العرب بلغتهم استوحاها المسيحيون وعلقت بالذاكرة الشعبية المسيحية وتحولت إلى جزء من أماجيد السيد القمبيطور بشكل سنلمع إليه فيما سيأتي.

من المعلوم أن جملة من الدارسين لملحمة السيد القمبيطور يرجحون العام 1207 تاريخا لكتابتها وينسبونها، متماشين مع رأي مينيندث بيدال، إلى شاعرين مجهولين من Soria إحدى المحافظات القريبة من مدريد.

على الرغم من وجود تكهنات أخرى إلا أن هذا الرأي ظل محتفظا بقيمته ووجاهته حتى فجرت المفاجأة الدكتورة دولوريس أوليفر بيريث أستاذة اللغة والأدب العربي بجامعة بلد الوليد حينما خلصت إلى أن المؤلف عربي ورجحت أن يكون العام 1095 التاريخ الصحيح لوضع الملحمة.

خرجت هذه النتيجة في دراسة عنونت لها المؤلفة ب: El cantar de M?o Cid: génesis y autor?a ?rabe الذي اقترحت ترجمة له الصيغة التالية: (ملحمة السيد القمبيطور: نشأتها ونسبتها العربية). صدر الكتاب هذا العام، 2008 عن مؤسسة ابن طفيل للدراسات العربية بألميرية وجاء فيما يزيد عن 400 صفحة.

الكتاب يحمل مفاجأة من العيار الثقيل، ذلك أن مؤلفته لم تكتف بتأكيد نسبة الملحمة لشاعر عربي وإنما تعدت ذلك إلى تحديد اسمه صراحة، وهو ذاته أبو الوليد الوقشي الذي ألمعنا إليه سابقا. وأبعد من ذلك أنها لم تطرح الموضوع على شكل فرضية محتملة بل جزمت صحة النظرية منذ البداية. الفكرة انبثقت حين كانت الدكتورة دولوريس تعيد قراءة القصيدة في محاضرات ذات علاقة بالموضوع حين لحظت وجود تفاصيل دقيقة على طول الملحمة مرتبطة بالتاريخ والعادات العربية الإسلامية (عندها أدركت أن المؤلف لا يمكن أن يكون إلا عربيا). وفي سبيل دعم هذه القناعة حشدت المؤلفة كثيرا من الحجج التي استقتها من داخل النص وخارجه. من تلك الدعائم التي ارتكزت عليها: إن الملحمة يستحيل أن تكون قد كتبت عام 1207 لأنه في ذلك التاريخ كانت العصبية على أشدها وانعدمت تقريبا لغة التسامح بين المسلمين والمسيحيين بينما الملحمة تفيض بروح التعايش السلمي بين الفريقين وتظهر السيد محبا للعرب وصديقا للتقاليد الإسلامية حتى أنهم كانوا (يتضرعون في صلواتهم من أجله). مما عضدت به المؤلفة نظريتها أن السيد يظهر في الملحمة ليس كفارس إسباني له صفة المحاربين المسيحيين بل كبطل مسلم يتصرف كالفرسان العرب والمسلمين. ومن طريف ما ذكرت المؤلفة لدعم موقفها قولها إن الإهانة التي وقعت على السيد من طرف أصهاره والتي تعرف ب(إهانة كوربس) حين جردوا بناته من ملابسهن وغادروهن في عرض الطريق وأغضبت جدا السيد وعدت من أجزاء الملحمة الرئيسية؛ لا يعدها بهذا القدر من العار والإساءة إلا العربي البدوي الذي يرى في ذلك أنكأ درجات الطعن في الشرف وأشد درجات الانتقام.

ركيزة أخرى اعتمدت عليها الدكتورة دولوريس في تعزيز نظريتها هي أن إحدى طرق القتال التي وردت في الملحمة واستخدمها السيد في غاراته تنتمي للمحاربين البربر الذي برعوا في مثل هذه الفنون القتالية ومنها ما تسميه الملحمة arrancada وهي ذاتها الفن المسمى ب(الحركة)، وتضيف المؤلفة أن الدارسين للقصيدة حكموا أن هذا الجزء غامض وناقص والحقيقة، والكلام لها، أنهم لم يفهموا المضمون حق فهمه. أمر آخر جيرته لصالح نظريتها هو أن السيد في الملحمة يظهر محبا للآداب ويعقد مجلسا للشعر والحكايات في بلاطة وهو ما يجعله في صورة القائد العربي الأندلسي الذي يقود الجيوش ويدبر شؤون رعيته بكل قسوة السياسي وحزمه وبالمقابل يطرب لحديث الشعر والأدب، كل هذا لم يكن من صفات القادة النصارى في الجزيرة الأيبيرية في ذلك العهد. لقد أكد ابن بسام في ذخيرته أن السيد القمبيطور (كان محاطا بعلماء وشعراء).

كان على السيدة بيريس أيضا أن تحل إشكالا آخر، لماذا عمد عربي مسلم لمدح نصراني غاز؟ الجواب لديها أن الوقشي، إبان الحصار، كلف من أهل بلنسية أن يفاوض السيد حول نصوص تسليم المدينة وكيفية ضمان حقوق أهلها وهو ما جعله محل ثقة القمبيطور حتى أصبح مستشاره ومعلمه الذي لقنه أسس الحكم وفنونه وخلق له مجالس الأدب والعلم وأكسبه حب الشعب وهنا، كما تذكر المؤلفة، في السنة 1095 تقريبا بدئ في إنشاد الملحمة بالعربية والرومانثي رغبة في إكساب الحاكم الجديد للمدينة ثقة وحب الرعية.

هذا مجمل ما خلصت له الدكتورة دولوريس في كتابها الجدلي وهي وإن كانت تدرك أن الموضوع لم يحسم تماما إلا أنها سعيدة بإنجازها إذ كما تقول: (لا يوجد ما يدحض ذلك حتى اللحظة). وفي الحقيقة وبعد هذا العرض لا أدري هل قراءات الملحمة التي قامت بها المؤلفة كما تقول، هو الشيء الوحيد الذي قادها إلى هذه المفاجأة وهي التي ربما قرأتها مرارا وتكرارا قبل ذك؟ أم أن هناك أمرا حرك هذه الافتراضات وجعل منها فيما بعد نظرية جديرة بالاحترام؟ هل اطلعت المؤلفة على كتابات عربية سابقة أشارت من قريب أو بعيد لشيء من تلك الافتراضات كما هو الحال مع د. الطاهر مكي حين رجح في كتابه (دراسات أندلسية في الأدب والتاريخ والفلسفة) أن مؤلف مرثية طليطلة الرائية المشهورة التي لم ينسبها المؤرخون إلى مؤلف هي من شعر أبي الوليد الوقشي نفسه الذي ترحل من طليطلة عقب سقوطها ليكون مع موعد جديد مع مرثية جديدة حين سقطت بلنسية؟ وهو ذاته الذي ذكر أن مرثية الوقشي علقت في الذاكرة المسيحية وخلقت أغنيات حول هذا البطل النصراني استمرت قرونا عدة؟. لا نعلم ذلك.

صالح عيضة الزهراني



 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

رأي الجزيرة

صفحات العدد