Al Jazirah NewsPaper Sunday  21/12/2008 G Issue 13233
الأحد 23 ذو الحجة 1429   العدد  13233
عائد.. من (اليمن)..الحلقة الأخيرة 1-2
أحاديث غير مصرحة عن (الوحدة) و(القطار اليمني) وقناة الإيمان..!
عبدالله مناع

طال بنا طريق العودة من (عدن).. إلى (صنعاء)، فقد ناف عن الخمس ساعات.. مع شيء من القلق أخذ يستبد بنا من هطول تلك الأمطار الغزيرة.. التي فاجأتنا بداية، ثم أخذت تسير معنا طوال العشرين كيلاً الأخيرة من الطريق.. وإلى مشارف (صنعاء) الجنوبية.. حتى خِفتُ -شخصياً - من أن تتحول - لا قدر الله - إلى

..... شيء شبيه بذلك الذي عصف بمدينتي (المكلا) و(المهرة)؛ فيتكرر ما حدث لي في كل من (تعز) و(عدن).. عندما لم أجد أحداً لألقاه، وأحاوره، ويسمعني وأسمعه.. بعد اعتذار محافظي المدينتين ورئيسي تحرير صحيفتيهما القوميتين الكبريين: (الجمهورية).. في تعز، و(أكتوبر).. في عدن.. بسبب توجههما إلى منطقة الكارثة، خاصة أن مرافقي وأخي الأستاذ وليد الريمي كان قد أبلغني منذ انطلاقتنا من (عدن) بأنه قد أنهى ترتيبات ثلاثة لقاءات لي مع ثلاث شخصيات يمنية أو (صنعانية) مهمة، أولها مع الصديق العزيز والشاعر والأديب الأستاذ حسن اللوزي وزير الثقافة والإعلام، الذي اعتذر عن لقاء الأربعاء الماضي بسبب كارثة المكلا والمهرة، وثانيها مع الرمز الثقافي اليمني الحر الذي أصبح بعد استشهاد (الزبيري) سابقاً و(البردوني) لاحقاً، وجدان اليمن وروحه، النبل غير المنازع، الشاعر الأديب، والباحث العالم الأستاذ الدكتور عبد العزيز المقالح، وثالثها مع الصحفي (الكهل) بتجربته النضالية في أفغانستان، و(الشاب) بتجربته الصحفية الأهلية الشجاعة.. في إصدار (مجلة) أسبوعية: سياسية جامعة.. هي (الشموع) وصحيفة يومية.. هي (أخبار اليوم)، التي تطبع بالتزامن.. في كل من صنعاء وعدن، وتوزع فيهما معاً في نفس اليوم: الأستاذ سيف محمد أحمد.

لقد كنت - وأمطار الطريق تعصف بعربتنا - أموت وأحيا.. قلقاً، خوفاً من ضياع تلك اللقاءات، التي لو ضاعت.. لشعرت بأن نصف ثروتي - على الأقل - من هذه الرحلة.. قد ضاع، وقد كان ذلك محتملاً.. لكن الله كان بي لطيفاً، فما إن وصلنا إلى الخط الدائري الثالث ل(صنعاء) إلا وكانت تلك الأمطار الغزيرة.. قد تحولت إلى (مزن) يبهج القلب فرحاً، لا (وابل) يُرعب النفس فرقاً.

في فندق (موفينبك - صنعاء) الذي عدت إليه مغتبطاً.. كنت أسترد أنفاسي مع فناجين القهوة اليمنية، إلا أنني كنت على عجل.. حتى أصعد إلى غرفتي لمتابعة آخر تطورات كارثة (المكلا) و(المهرة) المناخية، خاصة.. أن مستجدات قد طرأت عليها، ونقلتها لنا (إذاعة صنعاء).. أولاً بأول، خلال تلك الساعات الطوال التي قطعناها من عدن إلى صنعاء.. مشكّلة في مجملها تلك الوقفة العربية الخليجية المتوقعة والمرتقبة من جانبي لمساندة اليمن ودعمه في مواجهة هذه الكارثة المفاجئة، بعد أن استفزتني بداية أولى برقيات المساندة والمواساة.. التي جاءت من زعيم كتلة المستقبل اللبنانية السيد سعد الحريري، فأفردت لها (القناة الأولى) اليمنية - بطبيعة ورودها المبكرة - مساحة (مصورة) للرئيس وإلى جواره الحريري..!!

أمام التلفزيون.. كنت أبحث عن تفاصيل كل ذلك؛ لأتابع إعادات لأخبار البرقيات التي تلقاها الرئيس علي عبد الله صالح من أخيه خادم الحرمين الشريفين، ومن رئيس دولة الإمارات، وأمير دولة قطر، وأمير دولة الكويت.. مع ما صحبها من أخبار مبهجة عن المساعدات اللوجستية والعينية والطبية التي سيتم نقلها جواً إلى مطار (المهرة) مباشرة.. ابتداء من صباح يوم غد (السبت)، وقد لفت نظري في تلك الأخبار السعيدة.. خبر المساعدات الهندية الذكية التي أعلنت حكومة الهند عن إرسالها في ذات الموعد، والتي تمثلت في أمرين لا ثالث لهما.. إلى جانب الأدوية والمستلزمات الطبية: (مولدات كهربائية).. ومواتير ل(شفط) المياه من المدن والقرى المنكوبة..!!

عند هذا القدر من الأخبار.. قمت لأنزع ملابسي استعداداً لنوم مبكر، ليفاجئني هاتف غير متوقع، يقول لي صوت صاحبه.. بلطف: هل بإمكان معالي الوزير.. أن يأتي لزيارتك الآن..؟

قلت - بعد أن أخفيت دهشتي -: بالتأكيد.. ولكن أفي غرفتي أم في بهو الفندق..؟

قال بذات اللطف: حسبما تريد، فالمهم هو أن يراك.. لأنه قد لا يستطيع ذلك غداً نظراً لظروف (الكارثة).

قلت: على الرحب والسعة به في (المقهى).. المقابل ل(البهو)؛ فهو الأهدأ.. في هذه الساعات.

كان طبيعياً أن تتغير خططي.. فبدلاً من أن أنزع ملابسي، أعدت (عقالي) إلى رأسي، وأخذت طريقي إلى المصعد.. لأهبط إلى (بهو الفندق) وأستقبل الصديق العزيز.. قبل الوزير والمستشار والسفير الأستاذ حسن اللوزي؛ فقد كان كل ذلك تباعاً.. خلال السنوات الماضية.

بحثت عنه في (البهو).. ولكنني لم أتعرف عليه بسرعة؛ فقد كان - على غير أناقته التي عرفته بها - يرتدي بنطالاً كاكي اللون، ويلف صدره ب(سويتر) جلدي بين (البني) و(الأسود)، وقد اعتمر ب(عمة) يمنية شعبية من الشماغ الأحمر.. تماماً كتلك التي نراها في تجمعات اليمنيين في (جدة)، قلت له وقد أخذنا بعضنا بالأحضان: كأنك في هذه الملابس الجلدية.. تشبه مؤسس المدرسة (السيريالية) وعميدها الفنان: (سلفادور دالي) عندما ذهب إلى حفل افتتاح أحد معارضه بملابس (الغواصين) الجلدية.. اتفاقاً مع (سيراليته) في كسر (المألوف) والخروج على المتعارف عليه في الخطوط والألوان..؟

قال ضاحكاً: لم يخطر ببالي الرسام الإسباني الرائع أو سيرياليته.. ولكنني قدمت - للتو - من مدينتي المكلا والمهرة وشوارعهما وميادينهما الغارقة في المياه رغم الجهود التي بدأت تظهر آثارها؛ إذ خشيت لارتباطاتي غداً ألا أتمكن من رؤيتك، فتضاعف شعوري بالامتنان له إلى أبعد حد.. وإن كنت أعلم أن ذلك ليس غريباً على رقة الشاعر فيه، وصادق مشاعره نحوي.. بل ولا على اليمنيين بصفة عامة الذين عُرف عنهم الحب والتضحية والإيثار، وليس كما قال فيلسوفهم الساخر والمعارض حسن عبد الوارث: (اليمني ليس بيمني إذا لم يلعن القات بعد تعاطيه، وينتقد الفساد وهو يُسهم فيه، ويستغفر الله وهو يعصيه)!! لندخل وعلى الفور.. في حوار بين (أصدقاء) وكما كان العهد به.. لا حوار صحافة و(نشر)، فقد كان الذي قام بيني وبينه منذ تلك العقود من السنين.. أكبر من علاقة صحفي ب(مسؤول)، أو كاتب.. بأحد مصادر معرفته اليمنية المهمة، ولكنه كان أعمق وأجمل وأهم.. كان لقاء عقول وقلوب وأرواح على مائدة الطموح والأحلام والهموم العربية آنذاك..!!

بعد زمن.. لا أدريه، ولكنني اكتشفته من خلال خلو المقهى من رواده القلائل.. كان قد أحاطني برؤيته في معظم القضايا التي تشغل الساحة اليمنية، وإذا كان ليس من حقي الإفضاء بأحاديث جرت في حوار كهذا.. فإنني أستميحه العذر في الإشارة ولو عبوراً إلى ثلاث منها.

الأول: عن الوحدة اليمنية، وقد بادأته في أول اللقاء بتهنئتي ب(ذكرى) مرور ثمانية عشر عاماً، على قيامها، ليفيض في شرح ظروف الثمانينيات - من القرن الماضي - واللقاءات السياسية والوطنية الحاشدة التي جرت بامتداد سنواته في كل من (تعز) و(عدن) وصنعاء والمخا، والتي انتهت بإقرار (مشروع) قيام الوحدة بعد (قمة تعز) ما بين العاشر والثاني عشر من شهر مايو من عام 1990م، ليلمع وسط حديثه النشوان عن الوحدة.. قوله: إن تصريح خادم الحرمين الشريفين الملك فهد المؤيد للمشروع، الذي أدلى به إثر قيام الرئيس علي عبد الله صالح بزيارته في مدينة (حفر الباطن) الصحراوية.. كان مؤثراً وفاعلاً حقاً في وقته. ثم سألني: ألا تتذكره..؟

قلت: لا أظن، فقد كانت سماوات الإعلام كلها مشغولة آنذاك بالتحضير لحرب تحرير الكويت.. بعد فشل قمة القاهرة في القبول بمبدأ إعطاء الفرصة لليمن عبر رئيسه وللأردن عبر مليكه.. في حمل قوات صدام حسين على الانسحاب من (الكويت).

أما الثاني.. فقد كان عن حديثه الخيري عن (القطار اليمني) الساحلي الذي تم اعتماد مشروعه ليوصل ما بين مدن بحري: العرب والأحمر.. لأقول له: إن عظمة هذا المشروع تكتمل فعلاً إذا تم إيصال هذا القطار الذي سيمر بالمهرة، والمكلا، وعدن، والمخا، فالحديدة.. بإحدى المدينتين: صنعاء أو تعز.. اللتين تشكلان مع مدينتي (عدن) والحديدة.. أهم المدن اليمنية الأربع، وإنه يمكن الاستعانة - في هذه الحالة - بالخبرات السويسرية القادرة على بناء تلك الخطوط الحديدية فوق الجبال.

فقال متحسراً: ليس كل ما يتمنى المرء يدركه. لأصل بعد هذا.. إلى الحديث الثالث عن (قناة الإيمان) التي سينشئها التلفزيون اليمني لبث الوسطية الإسلامية وبرامجها ودعوتها بين اليمنيين باختلاف مذاهبهم.

ومع حذري من قناة كهذه.. إلا أنني تمنيت له التوفيق.. إذا حسن اختيار العاملين فيها، والمقدمين لبرامجها، والمدققين في منهجها.. كان المقهى قد أوشك آنذاك على أن يخلو تماماً من كل رواده.. وأن الساعة قد تجاوزت الثانية عشرة بعشرين دقيقة، لأكشف أن حوارنا قد امتد لمائة وأربعين دقيقة، وأنه آن الأوان بعد هذه الليلة المشبعة.. لينصرف كل منا إلى نومه، لأودعه.. بأضعاف الحرارة التي استقبلته بها؛ فقد كان كريماً في كل ما فعل.. بارعاً دقيقاً حصيفاً في كل ما قال.




 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

رأي الجزيرة

صفحات العدد