Al Jazirah NewsPaper Wednesday  14/01/2009 G Issue 13257
الاربعاء 17 محرم 1430   العدد  13257
مركاز
طلعت وفا
حسين علي حسين

 

في منتصف الثمانينيات الميلادية كنت أعمل محرراً في جريدة الرياض، وكنت ومجموعة من الزملاء نشرف بالتناوب على تنفيذ الطبعة الثانية من الجريدة، وكان الدوام لهذه الطبعة يبدأ من الثامنة مساءً، وكان الانتهاء من هذه الطبعة يخضع لمجريات الأحداث المحلية والعالمية، فأحياناً نطبع العدد في الثانية بعد منتصف الليل، وأحياناً نرابط في الجريدة حتى مطلع الفجر.. تلك سنوات كانت مريرة على المستوى الشخصي؛ ففيها بدأ الاكتئاب تنشب أنيابه في صدري، حتى احتالت الحياة في بعض المراحل في نظري إلى عدم، عدم مطلق، كنت آتي إلى الجريدة وأغرس رأسي في الورق، المزيد من الورق، خصوصاً ورق وكالات الأنباء.. ولم يكن لي من سلوى في تلك النهارات والأمسيات إلا من القفشات أو النكت التي كانت تمرق، أضحك لها قليلاً ثم أعود إلى الشرنقة!

في تلك المرحلة بدأت العلاقة مع المرحوم الأستاذ طلعت وفا، كان صوته يأتيني من واشنطن ومن مدن متعددة في الولايات المتحدة، وكان صوته حيويا يدل على إقبال كبير على الدنيا وإيمان كامل بأنها يجب أن تعاش حتى آخر لحظة، وهو لذلك لم يكن بليداً، محباً للمكاتب الفاخرة ودردشة الصالونات والمقاهي، كان الخبر والصورة حياته، وكان مهنياً من طراز رفيع، يعرف قيمة الأخبار ومصادرها، وهو لذلك كثير الحركة متشعب العلاقات، حتى ظننت أنه مراسل متجول، وليس مديراً أو مراسلاً في مكان معين.. ومع هذه الحركة الدؤوبة كانت علاقات طلعت تتوسع ومحبة زملائه تزداد إكباراً لهذا الشاب الذي لا مطمع له إلا أن يكون مخبراً، وهي مهنة يحتقرها هواة الكراسي اللامعة، مع أنها في الدول المتقدمة من أرفع المهن وأغلاها؛ فمن يُجدها يزدد دخله وأصدقاؤه وعلاقاته، وفوق ذلك كله يصبح رقماً من ذهب، الكل يحترمه ويقدره ويهابه! عندما جاء طلعت وفا من الولايات المتحدة أصبح رئيساً لتحرير جريدة (رياض ديلي)، وكنت في ذلك الوقت قد تركت الصحافة لأفتح لي مكتباً من غرفتين للإعلانات، تعاونت مع الجريدة، وجلبت لها بعض الإعلانات المبوبة بعقود سنوية، وكانت اتصالاته بي لا تتوقف، وكأن نقود الإعلانات سوف تدخل إلى جيبه الخاص، وهو سلوك ينم عن أمانة وإخلاص للمكان الذي يديره، وإلا فإن البحث عن الإعلان عادة ما يكون من مهمة قسم الإعلان في الجريدة، لكنه القلب الحي المخلص، لمن أعطوه ثقتهم ووثقوا في قدرته.

وقبل أسابيع تقابلنا في الاحتفال السنوي لجريدة الاقتصادية، تعانقنا، تبادلنا القفشات مثل أيام زمان، ثم جلسنا، كان طلعت في قمة أناقته وإن بدت على محياه مسحة من الحزن وهو يقول (أنهكني المرض يا حسين! أصبح لي أكلي الخاص)! لم يقل ذلك إلا ونحن نتهيأ للعشاء، وهو يتهيأ للذهاب، تلك الليلة لم أنم: كلما أردت نسيان ما قال يطير النوم من عيني، فكيف به وهو صاحب المرض يتحدث وكأن الأمر لا يعنيه؟ إنه الإيمان بأن لكل أجل كتاباً سيفتح مهما حاولنا إغلاقه أو تجاهله!

رحم الله طلعت وفا، وجعل مثواه الجنة، فقد كان من معدن نادر في وفائه لمهنته ولزملائه.

وإن كان لي طلب فإنني أرجو من الزميل الأستاذ تركي السديري رئيس تحرير جريدة الرياض رئيس هيئة الصحفيين السعوديين، أن يفعل شيئاً يجعلنا لا ننسى اسم طلعت وفا، خاصة أن أبا عبد الله كان رئيساً سابقاً من خلال جريدة الرياض ولاحقاً من خلال هيئة الصحفيين، أقول ذلك وأنا أعرف كم كان طلعت وفياً لهذه الجريدة العزيزة على نفوسنا، فجريدة الرياض هي الجريدة الوحيدة التي عمل فيها منذ تخرجه من الجامعة حتى وفاته!

عزائي الحار لأسرته ولوالده الفاضل ولأخيه الزميل العزيز هاني وفا.




 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

رأي الجزيرة

صفحات العدد