Al Jazirah NewsPaper Wednesday  14/01/2009 G Issue 13257
الاربعاء 17 محرم 1430   العدد  13257

الشعر يكشف لنا نفسية الشاعر المريضة
إبراهيم الدريعي

 

يمر الشاعر بحالات من اليأس والقنوط تدفعه إلى التعبير عن سخطه على واقعه المرير بما يخطه قلمه شعراً أو نثراً وبما أن الشعر أمتع للنفس وأخف من قراءة النثر فإنه أخذ حيزاً كبيراً في حياة الشعوب، ومن خلاله يستشف القارئ نفسية صاحبه، وبعض الناس ممن حباهم الله حساً فنياً يعرفون اسم الشاعر بعد سماعهم بعض أبياته ولو لم يذكر اسمه لا سيما إذا كان شاعراً فحلاً ذا عاطفة جياشة ومعان صادقة، وخيال مجنح، وتراكيب جميلة. والنفس عادة لا تحب قراءة الشعر المتسم بالغموض أو الركاكة أو محاكاة العقل أو شعر المتون، ولعل شاعراً مجيداً مثل: أبو الطيب المتنبي الذي فاق الشعراء في عصره حتى تغنت بشعره الركبان، وانشغل الناس بشعره إلى يومنا هذا، وحسده الكثير على روائعه الشعرية التي خلدت ذكراه مع أنه وكما يقول عنه علماء النفس: مصاب بمرض نفسي اسمه (البرنويا) (جنون العظمة) وعلى الرغم من ذلك بز الأولين والآخرين بجودة شعره وجلال نظمه وصدق عاطفته.

هناك شاعر آخر من قلب نجد ومن قرية صغيرة تسمى مرات بالقرب من شقراء، ظهرت عبقرية هذا الشاعر وهو حمد الحجي - رحمه الله - الذي قال عنه الأستاذ الدكتور محمد بن سعد بن حسين، في كتابه الأدب الحديث في نجد: بأنه يشبه طرفة بن العبد، من الشعراء القدامى، في أصالة شعره ويشبه الشابي من الشعراء المحدثين، في رقة أسلوبه، ولكن القدر عاجله فتوفي في سن مبكرة بعدما أصابه مرض عقلي هو (الشزفرينيا) وشعره يصور واقعه المرير وتناقضات الحياة وفقره المدقع على ما حباه الله من عبقرية فذة فكان ألمعياً إلا أن ضغوط الحياة لم تدعه يتلذذ بحياته، ويخرج لنا شعراً أصيلاً حرمنا منه بفقده، ومن خلال شعره تدرك نفسية الشاعر التعيسة ونظرته التشاؤمية للحياة. اقرأ معي هذه الأبيات لتدرك صدق ما أقول:

لا أرى حمرة الورود ويدمي

شوكها أنملي كبعض الحراب

إن تغنت حمائم ملت عنها

ثم أرهفت مسمعي للغراب

وفي موضع آخر قال:

أأبقى على مر الجديدين في جوى

ويسعد أقوام وهم نظرائي

ألست أخاهم قد فطرنا سوية؟

فكيف أتاني في الحياة شقائي

يسيرون في درب الحياة ضواحكا

على حين دمعي ابتل منه ردائي

أرى خلقهم مثلي وخلقي مثلهم

فما قصرت بي همتي وذكائي

إن الشاعر يرى أنه ذكي وهو كذلك ولكنه لم ينل منزلة رفيعة كغيره مع أن غيره أقل منه ذكاء وتبوأ أعلى المناصب، فهو يعيش في صراع نفسي مرير أمام هذا التناقض المقيت الذي قلب حياته إلى بؤس وتعاسة وشقاء.

وهناك شاعرة أخرى تتمنى الشيب على الشباب، وهذه نظرة تشاؤمية لا شك فلا أحد يحب الشيب، ولكن ظروفها التعيسة حملتها على تفضيل الشيب على الشباب لعلها تجد في الشيب ما يعوضها عن الشقاء الذي تعيشه في شبابها وهي حيلة دفاعية للهروب من الواقع المرير. اقرأ معي هذه الأبيات لاعتدال الذكر الله:

شبابي لا أرى فيه سرورا

بشيبي ربما تزهو منايا

فتحلو عندها أيام دهري

وتحلو عندها كل المنايا

هنيئاً لي بشيبي لا بشبابي

ويا أهلا فخذ مني صبايا

المرجع كتاب: دراسات جمالية نصية في الشعر السعودي الجديد ص 141 تأليف د.عبدالله خلف العساف.

ومن هنا تلاحظ أخي القارئ أن الشاعر يطبع نفسه وأحاسيسه وحياته في طيات أبياته ونظمه، وتستطيع أن تعرف حياة الشاعر من خلال شعره والظروف التي يعيشها، فالمصاب بالاكتئاب مثلاً تلحظ عليه ذلك من خلال تعبيراته وحزنه وألمه ورغبته في التخلص من الحياة إلى عالم آخر ربما يكون أفضل من حياته الحالية والمصاب (بالبرنويا) تلحظ ذلك في شعره وقوله عندما يقول إنه أفضل من سعت به قدم فهو يفضل نفسه على البشر جميعاً حتى رسول البرية محمد - صلى الله عليه وسلم -، وأنا رأيي ومن خلال قراءتي لبعض الشعراء والأدباء أن المختص في الدراسات النفسية عليه أن يكتسب الحس الفني عندما يقرأ للمريض بعض ما يكتب شعراً ونثراً وأن يدرك معاناة المريض من خلال شعره أو نثره إلى جانب الأساليب الأخرى التي يستخدمها في تشخيص الأمراض النفسية؛ كالمقابلة والاختبارات النفسية والملاحظة والسيرة الذاتية وغيرها.

قبل أن أختم حديثي لا بأس من ذكر بيتين للشاعرة: اعتدال الذكر الله التي تصف فيها حالتها اليائسة فتستعذب الألم والبؤس: فهي شخصية (مازوخية) والمازوخي مريض نفسي وهو الذي يستعذب الألم. هناك بعض الأشخاص المصابين بهذا الداء يستعذبون أن يضربوا ويجدوا لذة في ذلك، انظر لها عندما تقول:

فيا قلبي ألا فانزف دماء

وياعيني ألا فابكي ونوحي

على ظلمي على بؤسي وعجزي

ودمعا دافئا صبي ونوحي

وقولها أيضاً:

أيها البلبل غرد

واطرب الروح الحزينة

أيها البلبل ردد

لحن آلامي الدفينة

هكذا يصف الشاعر مشاعره في خلوته فإن كان سعيداً ظهر ذلك في شعره وإن كان شقياً ظهر أيضاً ذلك في شعره أو نظمه، فكم في هذه الحياة من شقي ولكنه لا يستطيع أن يعبر عما في نفسه لأنه ليس بشاعر ولكن الشعر ليس وحده وسيلة التعبير عن المشاعر بل هناك أساليب أخرى؛ كالرسم والموسيقى وتدخل كلها مع الشعر والنثر ضمن شجرة الفن، فالرسام المكتئب تجد رسومه غامضة كئيبة تصف حزنه وشقاءه وألمه، وعازف الكمان تحس بنغمته الحزينة، كذلك عازف الربابة تحس بمعاناته وحزنه في صورة نغمات حزينة تصدر من قلب مكلوم. والله الموفق إلى سبيل الرشاد.


 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

رأي الجزيرة

صفحات العدد