Al Jazirah NewsPaper Friday  16/01/2009 G Issue 13259
الجمعة 19 محرم 1430   العدد  13259
بون شاسع بين التعاطي الحضاري والجافي
د. خالد محمد الصغير

 

أنت! نعم أنت المقصود بالكلام: (وخر سيارتك عن طريقي، ما تسمع أنت أصقه!) ثم جاء الرد من الطرف الآخر الموجه إليه العبارة السابقة: (أنا آسف إذا سكرت عليك الطريق، لكن كنت أتمنى أن تكون أكثر لطفاً وأدباً في طلبك، كان بإمكانك أخي الكريم أن تطلب ما تريد، ولكن من دون عويل وصراخ وسوء أدب).

لدي شعوري قوي أنك قد مررت بمواقف مشابهة لهذا المشهد أفسدت عليك كل لحظة من لحظات يومك الذي تعرضت فيه لتلك الواقعة، وربما قادك ذلك لتتساءل بصوت مسموع مؤداه: لماذا نحن السعوديين نسلك الخيار المتشنج، وغير الحضاري في تعاملنا اليومي مع بعضنا البعض بشكل مطرد تجعل الواحد منا يندر أن يمر يوم واحد في حياته من غير المرور بمواقف من تلك الشاكلة، وهذا التكرار والديمومة للتعاطي أو التعامل غير الحضاري في مشهد التعامل اليومي بين أفراد مجتمعنا جعلني أتوقف عند ذلك في محاولة لسبر غور هذا السلوك الاجتماعي المتفشي على نطاق عريض من أفراد المجتمع السعودي محاولاً في ذلك معرفة أو تتبع أو لنقل بعبارة أكثر دقة أسباب شيوعه بشكل لافت في واقع التعامل اليومي، وعارضاً للآثار السلبية المترتبة عليه، وكذلك سأستعرض الطرق الكفيلة التي قد تساعدنا بالتغلب عليه.

يلحظ المرء أن هناك قدراً من التعالي، والكبر، والفجاجة، والجفاء، والغلظة، والقسوة يشوب تعاملنا مع بعضنا البعض وذلك يمكن رؤيته أو ملاحظته في كيفية تعامل أولياء الأمور مع أولادهم، والأساتذة مع طلابهم، والرؤساء مع مرؤوسيهم، والناس فيما بينهم، حيث نجد في صنوف مواقف التعامل هذه مسحة من الجلافة والجفاء اللذين يسيران ويتحكمان في طريقة تعامل الجميع مع بعضهم، ولذا نجد أنه من النادر أن يتقدم طالب الخدمة -على سبيل المثال لا الحصر- بطلب مراده بطريقة حضارية راقية تنم عن حسن التعامل، والاحترام، والتقدير للطرف الآخر، أو في المقابل نجد أنه يندر أن يحصل على جواب مهذب عند طلبه أمر ما.

وفي محاولة لتلمس أسباب شيوع هذا السلوك الاجتماعي غير الإيجابي المتنامي يوماً بعد آخر يمكن للمرء إرجاعه إلى طبيعة الحياة المليئة بالضغوطات التي تجعل من المرء يفرغ شحنات من الأجواء الضاغطة التي يمر بها في يومه وليلته في وجه من يتعاطى معه، وهذا وإن كان مصدراً من مصادر أسباب تعاطينا غير الحضاري مع بعضنا إلا أن المتأمل يلحظ أن درجة الضغوط الحياتية التي نمر بها لا تقارن بمستوى ما يمر به غيرنا من أبناء الأمم الأخرى من ضغوط حياتية حادة لم تقد في نهاية المطاف إلى أن يكون تعاملهم مع بعضهم البعض مغلفاً بصبغة يسودها الجفاء، والتعاطي غير الحضاري.

وإذا كان القول بذلك يعني عدم قبول هذا التعليل فهل مرد ذلك إلى أن الشعور الجمعي العام بالإحباط، والشعور الطاغي لدى العديد من أفراد المجتمع السعودي بالشكوى والتذمر ساهمت في ولادة وشيوع هذا المسلك السلوكي السلبي على نطاق واسع؟ المتابع للحالة الاجتماعية السعودية عن قرب يلحظ أنك أنى اتجهت ببصرك يمنة، أو يسرة سواء كان ذلك في المؤسسات التعليمية، أو الحكومية، أو في مؤسسات القطاع الخاص، وحتى أثناء اللقاءات الاجتماعية العائلية والأسرية فستجد أن الصوت الطاغي على كل الأصوات ألا شيء يسير بشكل جيد في هذا البلد الأمر الذي كان له انعكاس على طريقة تعاطينا مع ما حولنا.

ويمكن كذلك إرجاع شيوع هذا النمط من التعامل الذي ينحى باتجاه الجفاء والغلظة إلى شعور الفرد بأن هذا هو النمط المتعارف عليه والمتوقع وما عداه يأتي في حكم القليل والنادر الحدوث، ومن هنا نرى أن العديد منا يبادرنا بالتعليق على اللطافة وحسن التعامل التي لقيها ممن تعامل معه للتو وكأنه كان يتوقع أن يلقى معاملة غير حضارية باعتبارها النمط السائد الذي يتعاطى من خلاله الناس في تعاملاتهم اليومية.

وبعد محاول التوصل للأسباب التي عملت على وجود هذا السلوك الاجتماعي علينا كذلك القيام بقراءة تفسيرية ثانية لذات المشهد السلوكي الاجتماعي السلبي لنحاول الوقوف على الأثر السلبي المتوقع من تعامل بمثل تلك المواصفات: إن التصرف والتعامل من منطلق الجفاء والقسوة تتم ترجمته بالصراخ، والتعسف، والغلظة ومن هنا نجد أن أولياء الأمور بتعاملهم الفض مع أولادهم في مرحلة مبكرة من أعمارهم قد عملوا على غرس هذه السلوك فيهم وبالتالي أصبح سلوكاً وطريقة تعامل ملازمين لهم أينما حلوا وهم في مرحلة متقدمة من أعمارهم وفي أي موقع يتواجدون فيه سواء كان ذلك في منصب قيادي يتولون فيه دفة سير العمل، أو يعملون في وظيفة مدينة، أو عسكرية، أو تعليمية، وفي غيرها من المجالات الأخرى، وبذلك نكون قد أعددنا وأنشئنا جيلاً متصفاً بتلك الشاكلة، وربما سيقوم هو كذلك بنقل هذه السلوك لجيل تالٍ له.

وهذا يفسر كيف أن طغيان مسحة الغلظة والجفاء التي تشكل طريقة تعاملنا مع بعضنا تخلق بيئة متشنجة يندر أن تسير الأمور معها بشكل هادئ غير متعسف، وكذلك دور الوالدين في إذكاء هذا السلوك وتأصيله في أنفس أبنائهم الذين بحكم نشأتهم في بيئة أماراتها البارزة لا تخرج عن نطاق الصراخ، والعويل، والشدة، والقسوة، يكونون قد سوقوا سوقاً نحو فقد الثقة بالنفس، والشعور بالإحباط، والأسوأ من ذلك ترك أثر سلبي متأصل على سلوكهم العام الذي يمكن تلمسه من خلال تعاملهم اليومي مع غيرهم من بني جلدتهم.

وهذا السلوك المشين يمكن التغلب عليه وهذا يتوقف على مدى نجاحنا في إقناع الوالدين بإعادة النظر في طريقة تربيتهم لأولادهم وذلك يمكن لنا تحقيقه من خلال التحرك في نطاق مسارين اثنين، الأول يستدعي القيام بحملة وعي وإعادة تأهيل تربوي للوالدين يمكن أن تأخذ شكل دورات تدريبية يطلب منهم حضورها حيث يكون هناك فرصة للإيضاح لهم أنه هناك بدائل أخرى غير الصراخ والعويل والشدة والقسوة المحطات الأبرز في تعاملهم مع أبنائهم، وأن عليهم أن يكونوا أكثر حذراً، لأن الطريقة التي يتعاملون بها مع أولادهم في مرحلة النشء تكون لها تداعيات سلبية على تشكيل ذواتهم في مرحلة مبكرة بشكل خاص، ومن ثم تلقي بضلالها السلبية على المجتمع برمته، والمسار الثاني يترتب على مدى نجاح هذه الحملة في استقطاب أولياء الأمور وفي حال عدم تحقيق نجاح في إقناع الوالدين بأهمية حضور دورات تدريبية بمثل هذه الشاكلة، فإن الوالدين أنفسهم يجب أن يستشعروا عظم المسؤولية الملقاة على عواتقهم، وأن يعملوا جاهدين على ضبط أعصابهم، ومحاولة التعامل مع أبنائهم بشكل حضاري يكون له انعكاس إيجابي على طريقة تعامل هؤلاء الأبناء مع غيرهم لاحقاً.

إن غياب التعامل الحضاري في مشهد التعامل اليومي بين أفراد مجتمعنا أمر يدعو للقلق ويتطلب منا مضاعفة الجهد من أجل تحقيق انقلاب أبيض يقود إلى القضاء، أو في أحسن الأحوال ترجيح كفة ميزان التعامل الحسن في مقابل غلظة وقسوة طاغية تسود طريقة تعاطينا مع بعضنا، ويمكن تحقيق ذلك وبقدر عال متوقع من النجاح في حال تظافرت جهود الجميع أفراداً ومؤسسات لإحداث تحول نوعي في الأسلوب غير الإيجابي الذي يتسم به منهج تعامل المواطن السعودي مع أقرانه المواطنين والمقيمين.



alseghayer@yahoo.com

 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

رأي الجزيرة

صفحات العدد