Al Jazirah NewsPaper Friday  13/02/2009 G Issue 13287
الجمعة 18 صفر 1430   العدد  13287
الاستثنائية، مفهوما: سلاح ذو حدين
د. عبدالعزيز بن عبداللطيف آل الشيخ

 

مفهوم الاستثنائية معروف ومطروح ضمن المنهج الأكاديمي، وتجنح له بعض فروع المعرفة الإنسانية لتحقيق غاية وأحيانا للخروج من إشكالية أو من مأزق ما. أما المفهوم في الجانب السياسي فيستخدم لأغراض متعددة: لرفع المعنويات ولشحذ الهمم، أو للشموخ والاعتزاز بالحضارة...

....والوطن. ولقد طالما استخدم ويستخدم هذا المفهوم من قبل الزعماء والرؤساء لأغراض سياسية وإستراتيجية واجتماعية، وقد يربط بحضارة أو بشعب أو مجتمع معين. إلا أن المغالاة فيه أو استعماله بإسقاطات خاطئة قد يؤدي إلى نتائج عكسية.

وفي الجانب الاجتماعي، يمكن تحديد مفهوم (الصلاح الاجتماعي) ضمن فكرة أيديولوجية تتمحور حول (طبيعة جودة المجتمع) نفسه. وبعبارة أخرى لأن تحكم على مجتمع لكونه (استثنائياً) لا بد من تفحص عنصر المجتمع وطبيعته من النواحي الأيديولوجية والأخلاقية، ويأتي هذان الجانبان من عمق وعراقة في التاريخ الحضاري للمجتمع. وإذا كانت الأيديولوجيات تعطى ولا تؤخذ، فإن النواحي الأخلاقية عبارة عن تطبيق عملي لها.

ولو أخذنا المجتمع الأمريكي مثالا لموضوع (الاستثنائية)، ما لها وما عليها، لوجدنا أنها سلاح ذو حدين، وكلفت وتكلف المجتمع الأمريكي ما لا يطيق. والاستثنائية بالنسبة لذلكم المجتمع ليست فقط لكونه (مختلفا) عن غيره، بل على أساس أنه أفضل من أي مجتمع سواه، وهنا تكمن الخطورة المبدئية. لقد رسخ تاريخيا، في عقول أفراد المجتمع، من خلال ما يكتب من كتب وما يدرس وما يقال على المنابر الخطابية، أن (أمريكا هي أعظم بلد في العالم)، من الناحية الأخلاقية، بشكل أساس، ومن نواح اجتماعية واقتصادية وغيرها. وتكمن الخطورة الأخرى في مزاولة الطموحات (عسكرياً وحضارياً وسياسياً) بناء على ذلكم المفهوم.

أما ترسخ مفهوم (الاستثنائية) لدى الأمريكيين فيعود إلى ما قبل الثورة الأمريكية، متوارثا من جذورهم الأوروبية، وملخصه أنهم (نوع متميز) من البروتستانت، ثم رسخت في عقولهم، منذ القرنين السادس والسابع عشر، فكرة أن من واجبهم أو من (قدرهم) تبني الفكرة بل وتصديرها. وساعد على ذلك تفاعلات كوكبية تتمثل في الصراع بين بريطانيا وفرنسا، وهو صراع، في مجمله، كاثوليكي بروتستانتي، يضاف إلى ذلك تجارة الرقيق ونمو الرأسمالية. لقد تم تربية الأمريكيين على المعتقد بأن تجربتهم استثنائية (حضارياً). وهذا المعتقد لا يتماشى مع الواقع، إذ إن دولاً مثل الصين والهند واليابان وإنجلترا وأسبانيا، ترى أن تجاربها الحضارية هي الأخرى (استثنائية).

وهنالك خطأ يتمثل في محاولة فرض أفكارهم، أو على أقل تقدير، بيعها. وبدأت الرؤية للاستثنائية، في حلتها (القشيبة) أيام الرئيس ريجن، الذي كان يحلم بمدينة (مثالية) تقع على تل عال في الأفق. أما المستوطنون القدماء الذين استعمروا ما يعرف اليوم ب(إنجلترا الجديدة)، في الشمال الشرقي من الولايات المتحدة الأمريكية، فلقد اعتقدوا بالحرية الدينية لأنفسهم وليس لسواهم، وهنا الإشكالية: لقد فرضوا قيمهم على غيرهم.

وفي الثمانينيات والتسعينيات من القرن الماضي، بعد سقوط الاتحاد السوفييتي، ظهر مصطلح (القوة الكبرى الوحيدة)، ورأى كيسنجر نفسه متقمصا شخصية ما عرف ب(الجوال الوحيد) the lone ranger. وكان هنالك في الخمسينيات برنامج تلفزيوني أمريكي يحمل ذلك الاسم. تصرف أمريكا على شؤونها العسكرية ما تصرفه دول العالم مجتمعة، وتسمي وزارتها المعنية بذلك (وزارة الدفاع!) ولا يوافق معظم الناس على هذه التسمية. ويقول هدجسن إنه بعد الحرب العالمية الأولى دخلت أمريكا، كما لو كانت في تنافس، مع كل من بريطانيا وفرنسا، ولسان حالها يقول، بغطرسة: (نحن الأفضل، نحن الأقوى). وبعد خروج أمريكا، منتصرة، بعد الحرب العالمية الثانية، وبعد إلقائها القنبلة على هيروشيما، أخرجت (فخورة) أم (متغطرسة؟)

وتعتبر أمريكا في المجالين الصحي والتعليمي ضمن أعلى عشرين دولة في العالم وليس ضمن العشر دول، ثم في المجال الاقتصادي، وبعد إزاحة القيود على القطاع الخاص، المتمثل في الشركات والبنوك وخطوط الطيران ووسائل الاتصال، وبخاصة من أيام ريجن، أصبحت الدولة جزءا من المشكلة وليس جزءا من الحل. وبدأت الأمور، بالنسبة للولايات المتحدة، تتجه نحو الاتجاه الخاطئ، خاصة بعد هدم جدار برلين في عام 1998م، وانهيار الاتحاد السوفييتي في عام 1991م. ومنذ هذين الحدثين باتت أمريكا في غير حاجة لمنافسة حلفائها، وشعر الحلفاء أنهم لم يعودوا في حاجة أن تدافع عنهم أمريكا.

وتلكم الهالة حول أمريكا تعارضها بعض الدراسات التي بينت أن ثلث المهاجرين إليها يعودون إلى بلدانهم التي قدموا منها، بعد أن تكشفت لهم الحقائق أن الحياة في أمريكا لم تكن بالسهولة التي كانوا يتوقعونها، ولم تكن ذهبية بالصورة التي كانوا يحلمون بها. وقد نتلمس أسباب الشعور بالاستثنائية أو الفوقية ضمن المجتمع الأمريكي فيما يتعلق بجغرافية أمريكا المتمثلة في بعدها المسافتي وعظم حجمها المساحي، اللذين شكلا عزلة لها. ثم إن الولايات المتحدة تحولت من الاكتفاء الذاتي إلى مرحلة الاعتماد على دول عديدة: في الأربعينيات كانت تصدر ثلثي إنتاجها من النفط واليوم تستورد أكثر من ثلثي حاجتها منه، ويشكل ثلثا ديونها من الصين واليابان، لقد أخرجها اعتمادها على غيرها من العزلة ومن (الاستثنائية) المدعاة.

أما الكتب المقررة في المدارس والجامعات فتغذي (مفهوم الاستثنائية) ضمن المجتمع الأمريكي، وطالما الأمر كذلك، فمن الصعوبة الخروج من مصيدة (الاستعلاء والغطرسة). لا تختلف أمريكا عن العالم، إذ إنها تعتمد عليه وفي حاجة إليه من نواحي الطاقة والاستثمارات والصناعة والقوى العاملة المحركة لاقتصادها. وفي السنوات التي تولى فيها بوش الرئاسة الأمريكية تم تعزيز الاستثنائية مؤثرة سلباً على سمعة ومصلحة أمريكا، ولم تعد أمريكا في عهده ديمقراطية ولا عادلة ولا محتشمة، وترسخ منطق يقول: (لسنا مضطرين أن نكون لطيفين لأي أحد).

والأجدى للسياسيين أن يوظفوا مفهوم الاستثناء للرفع من قدراتهم وكفاءتهم وتميزهم لصالح مجتمعاتهم، مما يحول هذا المفهوم من صفته السلبية إلى الناحية الإيجابية. إن ما انتهجته إدارة بوش من تصنت على الناس وتعذيب وشرطية غيَّر من الصورة التي قد يقال إنها حسنة إلى صورة سيئة عن بلد ينعت بالتميز.




 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

رأي الجزيرة

صفحات العدد