Al Jazirah NewsPaper Tuesday  17/02/2009 G Issue 13291
الثلاثاء 22 صفر 1430   العدد  13291

كُلُّ من لا قَيْتُ يَحْزِمُ أَمْرَه..!
حسن بن فهد الهويمل

 

لم تكن الأوامر الملكية الثلاثون مفاجئة ولا مربكة، وليست لذات التغيير ولكنها استجابة متأنية ومستوعبة لمتطلبات العصر وخلوص مبكر من معوقات اللحاق بالركب المخبّ في فيافي الحياة بكل ما تعج به من متناقضات صارخة.

فالمملكة بإمكانياتها المتعددة وحضورها الفاعل والمؤثر في كافة المحافل الدولية واحتياج المأزومين لها في ساعة العسرة ليست بمعزل عن تقلبات الطقس العالمي وعصمتها من الطوفان أن تستقل سفينة النجاة لا أن تأوي إلى جبل يعزلها عن العالم، ويعصمها من الماء، فلا مفر من الخلطة واختراق الأجواء، والاحتماء بالندية لا بالاعتزاز وامتثالها لآية التغيير حفزت القيادة الحكيمة على المبادرة في الوقت المناسب لتغيير ما في النفس، إذ لا مناص من الإذعان لقانون الحياة الذي تعبر عنه الحضارة الإسلامية بالسنن الكونية التي لا تتبدل ولا تتحول ومن ثم لابد من التحرف وأخذ الأشياء بقوة وحمل الأمة على الأخذ بمثلها.

لقد استيقظنا على طوفان الأوامر الملكية، ولكنها كانت صيباً نافعاً شفى صدور المترقبين لمخاضات الحراك الإصلاحي في العهد الميمون، ولما لم يكن ضخ الأوامر بهذا الزخم مرتجلاً ولا مفاجئاً فإن إمكانية التفاعل معها والتفعيل لها آتية لا ريب فيه، ولا سيما أن النفوس مهيأة لاستقبال المبادرات بروح القبول والتفاؤل، فالدولة التي تعيش الأحداث العالمية بوصفها شريكاً مؤثراً، وتتلقى المتغيرات الحضارية والمدنية بوصفها متمثلاً ومستهلكاً وتتوفر على كافة الإمكانات المادية، والاستعدادات البشرية لا يمكن أن يبطئ بها التخوف من استغلال الفرص ومبادرتها، ولا أن تتردد في اتخاذ القرارات المناسبة في وقتها، إذ ما أضر بالأمة إلا تكاثر الخيارات وتهيب المبادرات:

(ومن يتهيب صعود الجبال

يعش أبد الدهر بين الحفر)

(وإِرادَةٌ تَخْشى الرَّدى لا تُسْمِن).

والدولة حين تعيد هيكلة المؤسسات القضائية والتعليمية وتغير القيادات في مواقع أخرى وتختار لها الكفاءات البشرية المتوقدة حماساً والممتلئة معرفة ودربة وإخلاصاً تلقي المسؤولية في شباك المواطن، إذ هو في النهاية الراعي والرعية، ولقد قالها من قبل من لا ينطق عن الهوى: (كلكم راعٍ وكلكم مسؤول عن رعيته) فالتخطي إلى الأفضل لا تحققه القرارات وإنما تحققه الإرادات والاستجابة الطوعية الواعية لإرادة الدول.

إن التغيير الخلاق لا يمكن أن يقف حيث يذوب جليد الملل من الرتابة والتناظر ولا أن ينتهي حيث يَنْبَعِثُ الشعور بالأمل، الترقب، إن المسألة ليست إعادة لترتيب أوراق مبعثرة وبثها من جديد، إنها نتيجة حتمية لمراجعات دقيقة وتقويم سليم للمعطيات ورسم سديد للخطوات القادمة.

والأمة حين تستقبل هذا الحدث الجلل بالابتهاج يجب أن تترجم مشاعرها بالتفاعل الإيجابي مع المستجد، ولا يكون التغيير عندها عضواً غريباً مغروساً في جسم الأمة ليواجه بالخوف والتردد والسهر والحمَّى.

والأمة أمام هذه الإرادة الملكية الحصيفة تنتابها موجة من الفرح الغامر والترقب الحذر، فما الذي تَعِدُ به هذه الكوكبة من المسؤولين القادمين؟ وما الذي يساورهم من الهموم؟ وما الفضاءات المتاحة والإمكانيات المهيئة لتحقيق التطلعات في زمن يَسْتبق أهله المستجدات على مختلف الصعد. إنهم فتية صُنِعوا على عين الرقيب، واختيروا بكل دقة لينهضوا بحركة الإصلاح الشاملة لكافة مرافق الدولة، إن تغيير الهيكلة والوجوه مؤذن بأداء مواكب لمتغيرات العصر بكل ما يَعِد به.

والمملكة العربية السعودية بما حباها الله به من إمكانيات حسية ومعنوية، وبما هي عليه من أعماق دينية وسياسية وجغرافية واقتصادية بحاجة إلى مواكبة متوازنة لحضارة العصر ومشاطرة واعية لمؤسساتها العالمية، مواكبة ومشاطرة تمكنانها من النهوض بمسؤوليتها المتمثلة بعبادة الخالق وعمارة الكون وهداية البشرية، والتوفيق بين المهمات الثلاث يضعها أمام تحد عصيب، وقدرها أن تكون في أتون الأحداث والمتغيرات شريكاً فاعلاً ومؤثراً، ومكانتها عربياً وإسلامياً وعالمياً تفرض عليها الخلطة والتكيف مع المتغيرات العالمية دون المساس بمحققات حضارة الانتماء. ولا شك أن هذه معادلة صعبة ومربكة ولابد لها من تحرف واعٍ، ولكي تكون الدولة بهذه المواصفات في مستوى مسؤوليتها الذاتية حول إنسانها وكيانها وسائر مثمناتها الحسية والمعنوية، ولكي يأتي الإصلاح من قواعده فقد نظرت بعين فاحصة إلى المؤسسات الدينية والتربوية والثقافية والإعلامية إذ هي الكفيلة بصناعة الذهن ومواجهة التحدي ومواكبة المستجد.

ولو نظرنا إلى مفردة من مفردات الإصلاح، وهي المتعلقة ب(القضاء) ومتعلقاته من حقوق إنسانية لوجدنا الإصلاح قد امتد إلى الهيكلة والقيادة والإجراء، فالقضاء الإسلامي يواجه تحدياً عالمياً، وهو قادر على الصمود والتحدي وإثبات صلاحيته لمواجهة النوازل، ولن يتأتى ذلك إلا بالأخذ الجسور بالمستجدات الشكلية والإجرائية التي تحقق المصالح والمقاصد.

وإذ تكون صناعة الإنسان أهم من صناعة المؤسسة فقد أولت الأوامر جل اهتمامها لها، ولما كانت صناعته خليطاً من القيم المادية والمعنوية فقد نظرت إلى كافة المرافق الصحية والغذائية والتعليمية والإرشادية والحقوقية وتوفير الأجواء الملائمة للعيش الكريم والحرية المنضبطة التي لا تذيبه وتمْسخ ذاته ولا تعزله وتقمع إرادته.

لقد جاءت إرادة الإصلاح متوازنة مستجيبة لكل التطلعات والأمل بعد الله معقول على الذين حظوا بالثقة الملكية الكريمة أن يكونوا في مستوى مسؤولياتهم وعصرهم وتطلعات أمتهم إليهم، وهم أهل لكل توقع سديد.

إن الأمة التي تلقت الحدث بروح راضية مطمئنة تود من كل الأطراف النهوض بالمسؤولية على وجهها، فالزمن بإيقاعه المتسارع لا مكان فيه للمتثائبين ولا للمترددين.

وسنظل على رصيف الانتظار والترقب مع تغيير واعد بادر إليه ولي الأمر وهو يردد: (إِنْ أُرِيدُ إِلاَّ الإِصْلاَحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلاَّ بِاللّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ).


 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

رأي الجزيرة

صفحات العدد