Al Jazirah NewsPaper Thursday  12/03/2009 G Issue 13314
الخميس 15 ربيع الأول 1430   العدد  13314
فيض الضمير
أساتذة لا أنساهم إبراهيم سكَّر.. عالماً ومربياً وفناناً (2-2)
د. محمد أبو بكر حميد

 

لن أنسى أن أستاذي الدكتور إبراهيم سكر كان أول من غرس في نفسي فكرة صعود الجبل إلى قمته ،ومواصلة الدراسة إلى الدكتوراه، ..........

....ولما أسررت له ذات يوم بخاطر عجيب حول فكرة العمل بوظيفة لا علاقة لها بالكتابة والأدب بعد حصولي على البكالوريوس قال لي محذراً بغضب: (أنت مخلوق كده بتاع فكر وأدب.. أنت مش ممكن تنفع لحاجة غير كده، لازم تكمّل.. انتبه حدّ يدوّر لك دماغك.. أنا بحذرك يا محمد!).

وقبل سفري للدراسة العليا في الولايات المتحدة صيف 1982م اتصلت به بالهاتف من جدة إلى القاهرة أودّعه وأتزوّد بنصائحه. قال لي في آخر المكالمة: (شد حيلك.. أنا عايز أشوفك زميل بعد كده.. أعني دكتور.. فاهم.. ما تورنيش وشك (وجهك) أبلها (قبلها)!!) وأحسست وقتها أنه يربت على كتفي بحنان ويدفعني باليد الأخرى بقوة إلى الأمام.

وفي بداية مرحلة الماجستير مررت بظروف معينة وتحت وطأة الشعور الشديد بالغربة ففكرت بالعودة وإكمال دراستي في مصر, فاتصلت به في لحظة ضعف. قال لي غاضباً محذراً بأسلوبه المتميِّز ونكهته الحلوة حتى في مرارتها: (مش محمد اللي يقول لي الكلام ده.. مش أنت محمد اللي أنا عايزه.. أوعى تعملها وتجي مصر.. أنا مش هتكلم معاك لو جيت.. خليك هناك.. مش هتلاقي حاجة جديدة عندنا، ولو قدمت حاجة جديدة مش هتلاقي اللي يقدرها لك)، ثم أتبع ذلك بمثله المشهور الذي كان يقوله لنا أثناء الدراسة عندما ييأس: (مش نافعين.. كله عند العرب صابون!).

كان إبراهيم سكر يؤكد دائماً في محاضراته وفي أحاديثه الخاصة معي أن الثقافة ليست في قراءة الكتب وحدها فقط، بل إن الثقافة تكمن في ثراء تجربة الحياة. وظل يكرر على مسمعي هذا الرأي لما كان يعرفه من قلة خبرتي بالحياة آنذاك وبطريقته المرحة المعروفة في الحديث قال لي في تلك المحادثة الهاتفية: (يا سي محمد.. أوعى تنام على ودانك في أمريكا.. وتقعد لي مع الكتب في غرفتك، لازم تغرق في الحياة هناك عشان تعرف ازاي تعوم.. أمريكا دي بحر، الكتب ممكن تلاقيها هنا.. لو عايز الكتب.. بس يبقى تقعد هنا ويا دار ما دخلك شر، أنا ما أخافش عليك في تحصيل الثقافة من الكتب، ولكن دي بأه فرصتك أنك تستكملها من النواحي التانية!).

وأشهد أن اهتمام ورعاية الدكتور سكر بي لم تقل ولم تنقطع، فقد تابع رحلتي مع الحياة إنسانياً وأكاديمياً منذ مرحلة الدراسة الجامعية لمدة أربع سنوات كنت أراه كل يوم على مقاعد الدرس أو في بيته، وبعد حصولي على البكالوريوس سنة 1981م وسفري سنة 1982م للدراسة العليا في الولايات المتحدة الأمريكية حتى حصولي على الدكتوراه سنة 1988م.

كان هذا الأستاذ العظيم يرعاني بنصحه وتوجيهه عن بعد، ومنذ ذلك التاريخ ظللت أتردد على القاهرة لأراه كل عام حتى وفاته. كان يحيطني برعايته ومحبته واهتمامه بأبوة حانية لا مثيل لها، فكان لا ينام ولا يطمئن حتى أعود إلى الفندق وأسرد له تفاصيل حركة النهار والليل في كل ما يتصل بالكتب التي اشتريتها والأماكن التي زرتها والأدباء الذين التقيت بهم، وهي صفة لازمته منذ كنت طالباً عنده، إذ كان يسأل عني هاتفياً إذا افتقدني يوماً في إحدى المحاضرات، ويقول لي ممازحاً بروحه المرحة: (إيه ده يا سي محمد.. أنت خلاص أكيد شفت لك حاجة أحسن.. أمال مزوّغ ليه؟!).

خدم الأستاذ الدكتور إبراهيم سكر الحياة الفنية العربية والأكاديمية ما يقرب من نصف قرن في أكثر من موقع وفي أكثر من بلد عربي. كان من الرواد الأوائل للحركة المسرحية في مصر، ومن الرعيل الأول الذي حمل عبء التجربة في الأربعينيات من القرن الماضي، شارك في تأسيس عدة فرق مسرحية مما جعل الإمام حسن البنا يستعين به في تأسيس فرقة مسرحية للإخوان المسلمين سنة 1947م. حصل على دبلوم المعهد العالي للفنون المسرحية سنة 1949م، ومن المعروف أنه كان أحد الأعضاء المؤسسين لفرقة المسرح الحر الشهيرة سنة 1952م. واشتغل بالتمثيل فترة في المسرح والسينما، وعندما أحس بحاجة الحياة المسرحية العربية إلى أساتذة ومنظِّرين اتجه للدراسات الأكاديمية، ودراسة المسرح الكلاسيكي لأنه الأصل الذي نبع منه هذا الفن، فهو يؤمن أنه لا يمكن للمسرحيين اليوم من مؤلفين وممثلين وعاملين أن يحققوا لأنفسهم الأصالة المنشودة إلا بالعودة إلى دراسة المسرح القديم وهضم تجربته.

وانطلاقاً من هذا الفهم حصل إبراهيم سكر على الماجستير والدكتوراه في الدراسات اليونانية واللاتينية بين عامي 1959-1963م واتجه أكاديمياً إلى تدريس اللغتين اليونانية واللاتينية وآدابهما بكلية آداب عين شمس بالقاهرة إلى جانب تدريس أدب المسرح وتاريخه بالمعهد العالي للفنون المسرحية. وفي هذه الفترة قدم الدكتور إبراهيم سكر أعمالاً رائدة لمكتبة المسرح العربي حين ترجم تراث المسرح الإغريقي عن أصوله إلى العربية فنشر في كتابه القيم: (أيسخولوس) بحثاً شاملاً ودراسة تحليلية لمسرحيات هذا الكاتب الإغريقي الأول وترجم بأمانة مسرحيات (الفرس) و(السبعة ضد طيبة) و(الضارعات)، ثم لحق ذلك بكتابين سد بهما فراغاً في مكتبة الدارس المسرحي العربي، فصدر كتابه (الدراما الإغريقية) سنة 1968م في سلسلة المكتبة الثقافية المصرية عدد رقم......... ثم تلاه سنة 1970م بكتاب ثان بعنوان (الدراما الرومانية) في السلسلة نفسها تحت رقم........... وقد صدرا عن الهيئة المصرية العامة للكتاب.

والثمرة التي أفاد بها الدكتور إبراهيم سكر مكتبة المسرح العربي أنه ساهم في حركة التعريف بالمسرحين اليوناني والروماني، فقدم في كل كتاب تاريخاً لنشوء المسرح وتتبع أسباب ظهوره وتطوره في كل من هذه البلاد، ثم تلا ذلك بترجمة لحياة أهم الرواد الأوائل وملخصات لمسرحياتهم مرفقة بتعليق نقدي عنها. وبهذا يكون الدكتور إبراهيم سكر قد أعطى للدارس المسرحي العربي فكرة عامة عن مسرحيات لم تترجم وقتها إلى اللغة العربية، وربما أغرى الباحث العربي إلى ترجمتها بعد ذلك. ولا تزال كتب الدكتور سكر تُعدُّ مرجعاً يحتاجه الطلاب بالجامعات. وفي مجال البحث والدراسة نشر الدكتور سكر عدة مقالات في الأدب المسرحي الإغريقي والروماني بمجلة (تراث الإنسانية) و(مجلة الفن الإذاعي) و(مجلة المسرح) لها أهمية في إكمال فهم تصوره لخدمة المسرح العربي من خلال دراسة الأصول الكلاسيكية للدراما.

وخلال هذه الرحلة الطويلة مع الأدب المسرحي لم يقطع الدكتور سكر صلته بالتمثيل المسرحي منذ كان أحد رواده، وقد لازمته خبرة الممثل ووعيه على استكمال أدواته بصفته ناقداً مسرحياً وأستاذاً أكاديمياً، وظلت كتاباته ومحاضراته متميزة بهذا الحس الذي نفتقده اليوم في كتابات الكثير من النقاد النظريين.

وفي الكويت ساهم الدكتور إبراهيم سكر في تخريج دفعات من العاملين في المسرح الكويتي أدباً وتمثيلاً من خلال رئاسته لقسم النقد والأدب المسرحي بالمعهد العالي للفنون المسرحية في أواخر السبعينيات.

رحم الله إبراهيم سكر فقد كان أستاذاً فذاً ومربياً فاضلاً وفناناً قديراً. وكانت إنسانيته الحقة الطاقة الكامنة وراء كل مواهبه في الحياة، ووراء فكره الشاب المستنير. ورغم الشيخوخة التي أصابت جسده في سنواته الأخيرة إلا أن عقله ظل متقداً باستمرار وكان قلبه الكبير الذي اتسع للذين أحبوه وللذين تنكروا له عامراً بالحب والتسامح مع كل الناس. وقد وجدت -إلى جانب كل ذلك- في أبوته العظيمة صورة ذهنية لأبي رحمة الله عليه الذي فقدته قبل أن أبلغ الثالثة من عمري. فلا عجب أن أقع أسيراً لسحر شخصيته، وتلميذاً لأستاذيته وابناً لأبوته، ولا عجب أيضاً أن أحبه هذا الحب الذي ملأ عليَّ حياتي في أهم سنوات بناء شخصيتي ذاتياً وعلمياً، ولا زلت منتشياً به، ولا يمكن أن أنساه أبداً ما حييت.




 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

رأي الجزيرة

صفحات العدد