Al Jazirah NewsPaper Friday  13/03/2009 G Issue 13315
الجمعة 16 ربيع الأول 1430   العدد  13315
بين الانفتاح والانغلاق
عبد الله بن محمد السعوي

 

في هذا الزمن الكوكبي المعولم الذي بات فيه التواصل الأممي في ميادين الاتصالات والمواصلات في أوجه, وتضاعف فيه الضخ القنواتي واجتياح موجات المد الثقافي الجارف الذي ما فتئ يخترق حجب الرقابة ويقلص بفعل تدفقه المذهل فاعلية النظم الاستاتيكية, في هذه الفترة شهد مشهدنا

المحلي حراكاً فكرياً نال قسطاً وافراً من الامتداد العمودي والأفقي، ليشمل متباين المكونات التي تباينت آلية تعاطيها مع نتائج ذلك التغير الكبير الطارئ كإفراز لذلك الحدث السبتمبري الذي فرض تحويراً اضطرارياً على كافة النخب والتنويعات، ونشبت حالة من الجدل الداخلي أورثت ضروباً شتى من الأطروحات التي تفاوتت في معاينتها لحالتي الانفتاح والانغلاق، وكان هناك عدة توجهات كما يلي:

الأول توجه آثر فرض سياج من العزلة على منسوبيه وتخندق حول ذاته بعيداً عن أجواء الواقع وتطوراته اللحظية, وبت خطوط التواصل التفاعلي مع كافة فعاليات المشهد المحلي فضلاً عن الآخر النائي عن الحدود والذي تعاطت معه عبر فكرة المفاصلة.

هذا الطيف الفكري يعاين التاريخ معاينة مثالية حالمة ويقرأ التراث مختزلاً في مكوناته الوضاءة ويخلط بين قدسية النص وبشرية تأويله فالقداسة تطال الجميع. ثمة حالة عميقة من التحزب على رؤى حادة وبرامج للعمل الإسلامي فقدت عوامل الاستمرار, أما الحضارة المغايرة فقد انتهج هذا التيار منهجاً سلبياً يجسد مفهوم القطيعة مع كل منتجها الحضاري الشأن الذي يعكس تهميشاً إن لم يكن تغييباً لفقه المصلحة بمستوياته المختلفة، هذا الخطاب لا يتعاطى مع الفقه بقراءة مقاصدية بعيداً عن الانحياز المذهبي الذي يحول دون تحليل السياق الفقهي والتفاصيل التشريعية الدقيقة على نحو موضوعي يستصحب الواقع بعامة تشكلاته, بل تختزن ذاكرته جملة من المفردات الفقهية غرق بموجبها في سجالات حادة مع أنها بطبيعتها قابلة للتعاطي المتنوِّع إلا أنه يعاينها من منطلق مذهبي محض ولا يسوّغ لمقاربتها حتى ولو احتوت تلك المقاربة على عوامل علميتها.

ثانياً: توجُّه آخر على النقيض من سلفه، فأصحاب هذا التوجه فروا من الانغلاق فوقعوا في انغلاق أشد خطورة حيث التهمهم الآخر المشبع بروح الانفصام بين الدين والحياة والذي يتكئ على مركزية التقدم اللامتناهي فيستدبر الغايات القيمية ولا يقيم لها أدنى اعتبار, إذاً هم هربوا من الوصاية فسقطوا في فك مفترس انبهروا بكل ما يحتويه من أدوات بل حتى في أدق الجزئيات الحياتية. ضمور الأنفة الثقافية لدى هؤلاء ألغى لديهم البعد الاستقلالي فانغمسوا في حالة من التقليد الإمعي مع اعتقادهم بأن مقدار التميز مرهون بالنجاح في محاكاة الآخر في كل شؤونه وتقمص شخصيته واستيراد إجاباته الجاهزة على أسئلة الواقع. لقد أتي هذا الوعي ? الذي سيظل باهتاً مهما شحن بالطاقة والضوء!- من قبل جهل مفرط بتفاصيل الشريعة الأمر الذي حال بينه وبين القراءة الفرزية العميقة لأدبيات تلك المنظومة، والاشتباك مع انكساراتها المعرفية، ولذا فهذا الوعي لا يميز بين المشترك العام كإرث للجنس البشري ونتاج تراكماته الحضارية وبين الأفق الرؤيوي الصلد النابع من عمق البنية الثقافية.

هذه النوعية مهزوزة الكينونة فقراءة كتاب واحد فقط, يعبر عن أفق عقائدي مغاير كفيل بزعزعة مبادئها القيمية وقلبها رأساً على عقب، إنها مرشحة للاختراق الثقافي إذ ما تعتنقه من مسلمات موضوعية تلفظ أنفاسها الأخيرة بمجرد أدنى احتكاك فكري، فهو يعرضها للذوبان ويجعلها أسيرة للاختطاف الإيديولوجي، ولاشك أنه ليس أخطر من الانغلاق الحاد إلا الانفتاح العشوائي المسعور والمفتوح على اللانهايات.

ذلك السعار الانفتاحي اللامشروط لا يفصح إلا عن حالة مرضية انعكاسية لشعور حاد بالضآلة يجري ترجمة آثاره عبر هذا الانفتاح العبثي على (الهو) مع استصحاب التقليل من قيمة (الأنا) بواسطة العبث بتراثها وتشبيحه بل وتوظيف التداعي الدولي ضد الإرهاب لتصفية الخصومة مع الإسلام عبر انتهاك تراثه، وعدم التمييز بين أبعاده الصلبة وأبعاده اللينة عبر كتابات غاية في التسطح والافتقار لمتانة التماسك العلمي وشروط المعاينة الابستمولوجية!.

هذا الوعي يعتقد أن التقدم مشروط بالتحرر من الدين ومصادمة الثوابت ولا يعي أن الغرب ذاته ينطوي على ثوابت دستورية لا يمكن أن تمس بأي حال من الأحوال. القول بضرورة تهميش الدين كما نرى في أدبيات الفلسفة البراجماتية سواء التي تقوم على الأفق الذرائعي ك(ديوي) أو التي ترتكز على المثالية ك(بيرس) أو التي تعتمد على البعد النفعي ك(جيمس) ونحوها من الفلسفات ذات المنحى المادي التي اصطفّت لإقصاء الدين عن التفاصيل الحياتية هذا القول أثبت العقل خطله ونطق الواقع بسذاجته.

ثالثاً: ذلك التوجه السليم الذي آثر التحرر من القوالب النمطية التي لا يفضي الإخلاد إليها إلا إلى إنهاك الأمة والعصف بأوردتها الحيوية, وانتهج سبل الانفتاح الواعي باشتراطاته والمحكوم بمقتضيات الحقائق المنبثقة من طبيعة الخصوصية. تلك الحقائق هي التي تمنح المقاييس الدقيقة لوعي مواطن الخيرية والشرية في آن. هذا الخطاب يتعاطى مع مفردة (الانفتاح) بحسبها عالم رحب المدى مترع بالمتناقضات فهي مفردة عمومية حمالة يتعذر التماس مع منحاها الماهوي بغية اسقاط الحكم عليها لأنها مطاطة يدلف في محتواها ما لا ينتمي إليها، ولذا فهو يستفصل عن حقيقتها وعلى ضوء ذلك يجري النقد والتقويم.

هذا التوجه عاش في وسط الأمة فعايش همومها ولامس الواقع بكل تفاصيله وغرد خارج السرب فمد أبعاد الأفق التواصلي مع الآخر متجاوزاً سبيل التلقي الميكانيكي نحو إخضاع المنتج الآخر للتشريح والتعرية والتشخيص.

هذا الانفتاح النقدي التفاعلي يقف على أرضية صلبة، فهو ينفتح على كافة الحضارات مسلطاً عليها أشعة النقد, يشتبك مع الحداثة على نحو خلاق دون أن يُستوعب فيها, لقاء علو سقف كفاءته التساؤلية التي تتيح له وعياً عميقاً بمكونات المنظومة المغايرة والوقوف عن كثب على عناصر خللها إنه يتحولها -أي يتعرف على أحوالها- بمنتهى الدقة. لديه إيمان تام بفكرة التدافع وأن العالم تتلبسه حالة من الحراك الديمومي الذي ليس بالضرورة أن ينحو منحى صراعي حتى وإن كان هذا أحد أشكاله أحياناً.

إنه يؤمن أيضاً بأنه لا يسوغ التحسس من نقد التراث، فالأصالة والحفاظ على المنجز وذلك الوجه التاريخي المشرق لا يعني إشاحة الوجه عن الثغرات ومناطق العتمة بل يجب استدعاء التساؤلات المنهجية والرصد الذكي لأبرز إشكالياته. إنه بآليته النقدية التفاعلية ينبعث من رؤية عقدية شمولية تطرح على المستوى الفلسفي شعار (الإسلام رؤية للكون) وهي عقيدة شمولية تتعاطى مع اليومي والمباشر والكلي والنهائي، إنها تطرح منهجاً معرفياً عاماً، ويتمخض عنها منظومات فرعية متنوعة أخلاقية وجمالية واقتصادية وسياسية، فهي عمومية تتناول العلاقات النكاحية والحب والمعمار، وتحض على الفعل التنموي بشتى صوره، وتطرح آليات الحلول الواسعة لإشكاليات العالم الحديث.




 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

رأي الجزيرة

صفحات العدد