Al Jazirah NewsPaper Monday  16/03/2009 G Issue 13318
الأثنين 19 ربيع الأول 1430   العدد  13318
جورج مدمن الخمر والحرية الموجبة والسالبة
د. عبدالرحمن الحبيب

 

الحرية هي أحد الأشياء التي يكاد يتفق الجميع على خيرها، وهي أحد أهم المُثل السياسية العليا، وربما أهمها على الإطلاق. والحرية، أيضا أحد الأشياء التي يكاد الجميع يختلف حولها. كم مقدار ما نحتاجه من الحرية؟ هل الضوابط ضرورية لازدهار الحرية؟

كيف يمكن لحريتك في أمر ما أن تتصالح مع حريتي التي تتضارب معها في أمر آخر؟ إضافة لهذا الخلاف فإن النقاش حول الحرية أو التحرر يزداد اختلافاً عبر عدم الاتفاق بشأن الطبيعة البحتة للحرية. حيث يكمن الشك أن في (الحرية) لا توجد فيها الطبيعة البحتة للحرية، ليس فقط بمعنى أن كلمة (الحرية) لها معان متعددة ولكن هناك اختلافات في مفاهيم الحرية. للإضاءة على هذا الغموض، نحن مدينون لتأثير فيلسوف القرن العشرين إسحق برلين. ففي محور نقاشاته عن التحرر يضع تمييزاً حاداً بين الحرية الموجبة والسالبة.

خذ مثلا: جورج جالس أمامه كأس خمر. لا أحد يصوب مسدساً على رأسه، ويجبره على الشرب. ليس هناك إكراه ولا عائق.. لا قوة تجبره على الشرب أو تمنعه. هو في حالة تحرر ليعمل ما يرضيه. ولكن جورج مدمن كحول. وهو يعلم أنها عادة سيئة له، بل ربما تقتله. فربما يفقد أصدقاءه، عائلته، أطفاله، عمله، كرامته، واحترامه لنفسه... ولكنه لا يستطيع منع نفسه من الشرب. يمد يده المرتعشة ويحمل الكأس إلى شفتيه.

هناك نوعان مختلفان من الحرية يلعبان دوراً هنا. نحن دائما نعتقد أن الحرية هي غياب القيود الخارجية أو الإكراه: أنت حر طالما لا يوجد هناك عائق يمنعك من عمل ما تريد. هذا ما يطلق عليه برلين (الحرية السالبة)؛ هي سلبية لأنها تُعرِّف الحرية بما يغيب عنها.. غياب أي شكل من الإكراه أو التدخل الخارجي. في هذه الحالة، فإن جورج الشارب هو حر بالكامل. لكن جورج لا يستطيع منع نفسه. إنه مدفوع أو مجبر على الشرب، رغم علمه أن من مصلحته ألا يشرب. هو لا يسيطر على نفسه بشكل كامل ولا يملك مصيره تماماً. ولحد ما هو يُقاد إلى الشرب، ليس لديه خيار ولا حرية. ما ينقص جورج هو ما يسميه برلين (الحرية الموجبة).. إيجابية حيث إنها تُعرِّف الحرية بما نحتاجه ليكون موجوداً.. السيطرة على النفس، الاستقلال الداخلي النابع من الذات، القدرة على الفعل وفقاً للتقييم العقلاني لأفضل مصلحة للفرد. في تلك الحالة فإن جورج بالتأكيد لا يمتلك حريته.

الحرية السالبة حسب برلين تقول نحن أحرار للمدى الذي لا يتدخل فيه أحد في أفعالنا على النحو الذي نريد. ولكن عند ممارسة تحررنا، نحن حتماً ندوس على أقدام بعضنا بعضا. عندما أمارس حريتي بالغناء بصوت عال في الحمام، أنا أحرمك حرية التمتع بأمسية هادئة. لا أحد يستطيع التمتع بحرية غير مقيدة، دون اعتداء على حرية الآخرين، لذا عندما يعيش الناس مع بعضهم في المجتمعات، لا بد من بعض التنازل.

في هذا السياق فإن الموقف المتبع عند الليبراليين الكلاسيكيين أنه يحدد ما يُطلق عليه (مبدأ الضرر). وأشهر من أطلق هذا المبدأ هو فيلسوف العصر الفيكتوري جون سوارت ملّ في عمله في الحرية Liberty On ، هذا المبدأ يشترط أنه يجوز للأفراد أن يقوموا بأي عمل لا يلحق الضرر بالآخرين؛ وفقط عندما يحدث الضرر فإن المجتمع يحق له أن يفرض القيود أو الضوابط على الأفراد. في بعض الحالات يمكننا أن نحدد حيزا من الحرية الشخصية تكون لها حصانة من أي مس من التدخل الخارجي أو تدخل السلطة. في هذا الحيز يحق للأفراد التمتع بأذواقهم وميولهم الشخصية دون عرقلة؛ وفي الحالة السياسية فالأفراد لهم حرية ممارسة مختلف الحقوق المحصنة، كحرية التعبير والتجمع والمعتقد..الخ.

ورغم أن الفهم السالب للتحرر تم تبنيه عموماً من المتحررين، على الأقل في البلدان الغربية، إلا أن العديد من المسائل الشائكة ظلت باقية. ومن أهم تلك المسائل أننا نتساءل هل يمكن لشخص أن يتمتع بالحرية وهو لا يملك القدرة ولا الموارد؟ هذه ظلال التحرر التي تدع أي مواطن أمريكي حراً ليصبح رئيساً. نعم، لا يوجد مانع قانوني أو دستوري لذلك، فكل المواطنين لدرجة ما يمكنهم أن يصبحوا كذلك؛ لكن في الواقع هناك العديد يتم منعهم بسبب فقدهم للموارد، وتحديداً المال والثقافة والمكانة الاجتماعية.

إذا كانت الحرية السالبة هي التحرر من التدخل الخارجي فإن الحرية الموجبة هي عادة تتصف بالحرية في بلوغ غاية محددة، بشكل تفويضي تتيح للفرد تحقيق إمكانياته لإنجاز رؤية ذاتية معينة، تمكنه الوصول إلى حالة الاستقلال الفردي والسيطرة الذاتية. بالمعنى السياسي الواسع، فإن الحرية الموجبة هي التحرر من الضغوط الثقافية والاجتماعية التي تعرقل التقدم نحو تحقيق الذات. وحيث إن الحرية السالبة ضرورية للعلاقة بين الأفراد، فإن الحرية الموجبة، على النقيض علاقة في داخل الفرد، أي أنها شيء ينشأ ويتطور داخل ذات الفرد، ومثلما داخل ذات جورج الشارب هناك صراع بين عقله وشهوته، لذا عموماً فإن المفهوم الموجب للحرية يستلزم انقسام الذات إلى جزء أعلى وأدنى، وهنا يكمن تحقيق الحرية من خلال تفوق (أخلاقي، عقلي) للجزء الذاتي الأعلى.

في حالة جورج الشارب ربما جزء منه يفهم أن أفضل مصالحة تكون في الجزء الأعلى، أي النفس الأكثر عقلانية. ولكن إذا كان غير قادر على تشجيع هذا الجزء ليتفوق على إدمانه، ربما هو يحتاج إلى مساعدة خارجية من أناس أكثر حكمة وأفضل كفاءة لتقدير كيف يتصرف، ومن هنا فإن خطوة بسيطة منَّا ستكون مُبرَرة للفصل بين جورج وقارورة الخمر.

ما ينطبق على حرية جورج الشاب ينطبق على الحرية عموماً أيضاً، ولكن ما يخشاه برلين: أن السير تحت شعار الحرية (الموجبة)، يجعل الحكومات تتوجه نحو الاستبداد، واضعة أهدافاً محددة للمجتمع؛ وترتب أولويات محددة للمواطنين، وتقرر ماذا ينبغي أن يرغبون دون اعتبار لما يرغبون فعلا. يقول برلين: (لتتلاعب بالناس، وتدفعهم نحو أهداف تراها، ولكنهم قد لا يرونها، هو إنكار لجوهر إنسانيتهم، حين تتعامل معهم كرعية بلا إرادتهم، ومن ثم تذلهم).

وبرلين نفسه يرتاب بعمق حول احتمال سوء فهم واستخدام التحرر الموجب الذي تم تعبئته في القرن العشرين، خاصة التجربة الستالينية. فالإشكالية تأتي من الاعتقاد أن هناك حقا واحدا للمجتمع، وعلاجا واحدا لأمراضه. وضد هذا التصور فإن برلين كان مناصراً بقوة للتعددية في القيم الإنسانية. هناك تعددية في الخير مختلفة وفريدة، ومن خلالها يجب على الناس القيام بخياراتهم الحاسمة.

* ترجمة الفكرة 44 عن كتاب بن دوبري (50 فكرة فلسفية تحتاج فعلاً لمعرفتها)



alhebib@yahoo.com

 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

رأي الجزيرة

صفحات العدد