لو قدر لنا أن نختار معيارا للآداب العامة عند الشعوب لكانت الشفافية المرشحة الأهم لترشيد الأخلاق العامة، ولوضع قواعدها التي لا تتفاوت نتيجة لاختلاف الثقافة أو الطبقة الاجتماعية، إذ لا يمكن بأي حال أن نتحدث أو نعظ عن الأخلاق العامة أو الآداب العامة في مجتمع يحارب الشفافية، ويراها مناهضة لأصل الستر عند الابتلاء، وهو المبدأ الذي بسبب سوء فهمه تم تشويه الشفافية ثم اختزال تطبيقاتها على الطبقات الدنيا في المجتمع العربي، لتتحول الشفافية إلى ضبابة تغم الأجواء عندما يتم تسخير أصل (إذا ابتليتم فاستتروا) كغطاء على مخالفات أناس، لكن تختفي تطبيقاته عن آخرين ليس لهم لا حول ولا قوة.
الستر هو الأصل الذي من المفترض أن يظل مفهومه محصوراً على الفرد المتورط في مخالفات أخلاقية شخصية، ويخشى الجهر بها، وهو بالتأكيد من حق من حقوقه إذا استطاع أن يستر على انحرافه، لكن المجتمع لا يفترض أن يكون مسؤولا عن تطبيق هذا الأصل إذا كانت المخالفات فيها ضرر ملموس على الناس، لذا يحرص المجتمع السليم على تنقية أجوائه من الجرائم من خلال آلية الشفافية ونظرتها الشاملة، وليس المحدودة فقط بتجاوزات الفئات المستضعفة.
كثيراً ما نتابع على صفحات الجرائد صورا فاضحة لعمال تم ضبطهم وهم في منازلهم يصنعون الخمور ويروجون لها، وأيضا لآخرين وأخريات يتاجرون ويمارسون الدعارة أو يقومون بالسرقة، لكن عندما يتم نشر أخبار عن رجال ونساء سعوديين تم ضبطهم في مواقف مخالفة للشريعة كالاعتداء الجنسي على القاصرين، أو لتجار تم ثبوت احتكارهم لمنافع من أجل رفع أسعارها، يتم إخفاء هويتهم، وأسمائهم، ويصل الأمر إلى حد التعتيم أو التخفيف في عقوباتهم الجسيمة..كذلك هو الحال على مختلف طبقات المجتمع التي تتميز بحصانة ضد الشفافية، فتجد ضباط الآداب العامة يستخدمون آلية الستر لإخفاء مخالفاتهم القانونية والشرعية في حق المجتمع.
كذلك تابعنا في السنوات الأخيرة ما يحدث من تراشق واتهامات بين بعض أفراد المجتمع، وبين هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فالهيئة تلاحق بعض فئات المجتمع، وتعمل من أجل فضحهم من خلال تسليط أضواء الشفافية عليهم، ثم تعلنها كنجاحات غير معهودة، وفي المقابل يطالب آخرون بالجهر بأسماء المخالفين من أفراد الهيئة لنظام عملها الأساسي..وترد عليهم الهيئة بملاحقة بعض الكتًاب والمثقفين إذا حدث وتم ضبطهم في مخالفة شرعية، ويظل الوضع غير صحي ومفسد للأخلاق والآداب العامة.
هذه الشفافية الانتقائية تعد أكبر معوقات مراحل نضوج مبادئ الآداب والأخلاق العامة كسلطة مثالية لحكم سلوك المجتمع وحمايته من الانحراف أو الازدواجية في المعايير، إذ لا يمكن أن تزدوج معايير الآداب العامة فتكون حصناً منيعاً لحماية بعض بينما تفضح شفافية مشوهة خصوصية آخرين من المخالفين من الوافدين من العمالة البنجلاديشة،
عادة يكون للإحباط مكان ومستقر عند الفئات العاملة إذا شعروا أن هناك من يحاسبهم على التأخير في الحضور عن الدوام، بينما لا تتم محاسبة أولئك الذي يهدرون مصالح الناس سواء بسوء الإدارة أو بمأسسة الفساد المالي في الشركة أو المؤسسة الخاصة والعامة..، وفي حال منح الشفافية دورها كاملاً في رصد أي مخالفة شرعية أو قانونية في حق المجتمع، ستتحسن قواعد الاخلاق العامة، وسيكون الإنسان مضطراً على أن يلتزم بالآداب العامة خوفاً من عقاب المجتمع القاسي على أفعاله،..كذلك ستلتزم المعاملات المالية في المؤسسات والشركات والوزارت بالوضوح خوفاً من عيون الشفافية.
الشفافية أصبح لها منتديات عالمية، ومؤسسات تقدم التقارير السنوية عن معدلاتها في مختلف دول العالم الحديث..لذا يجب تفعيل هذه الآلية الشفافة ومنحها قوة القانون من أجل الوصول إلى ضابط عام للآداب العامة قوامه سلوك وأخلاق الإنسان المستمدة من دينه وتقاليده ومعرفته وغيرها من المصادر التي تثري هذا الضابط المثالي وتجعل منه قوة اجتماعية لا يُستهان بها.