ما وطئت قدماي أرض قطر عربي من أقطار أمتنا إلا أحسست بسعادة غامرة في وصولي إليها، ووجدتني أردد في نفسي ما سبق أن قلته في زيارة لأحد تلك الأقطار؛ معبِّراً عن شوقي إليه؛ إنساناً وتراباً:
|
أتيت يحملني عبر المدى قبس |
معطَّر بالشذا الفوّاح فتَّان |
على جناحين ميمونين حقَّهما |
من مهبط الوحي والتنزيل إيمان |
ومن عشيَّات نجد مستطاب صبا |
ريَّاه شيحٌ وقيصوم وريحان |
أتيت من وطني شوقاً إلى وطني |
وأرض يعرب لي دور وأوطان |
وكنت قد حييت مدينة عمان بالذات في إحدى زياراتي المتعددة لها بأبيات منها:
|
أتيت أحمل من نجدٍ أصالتها |
رفاقي الشيح والقيصوم والرُّطب |
وطائف من صباً أذكت نسائمه |
غمامة بالشذا الفوَّاح تنسكب |
وروعة من مغانٍ فوق تربتها |
تدفَّق الحرف شعراً وازدهى الأدب |
|
وجئت ألثم من عمَّان مبسمها |
إذ شاقني من رؤاها ثوبها القَشِب |
تلالها السبعة استولت على خَلَدي |
فراح يتلو لساني بعض ما يجب |
وكان ذهابي الأخير إلى تلك المدينة الجميلة مبعث ابتهاج بتجديد رؤية إخوة أكن لهم مودة وتقديراً، كما كان فرصة لي كي أفيد من علم أولئك الذين هم أهل لإثراء الآملين أمثالي في الارتواء من معين معرفتهم. واختيار موضوع ندوة الفكر العربي عن القدس اختيار موفق. ذلك أن القدس قد اختيرت عاصمة للثقافة العربية هذا العام. واختيار عنوان الندوة؛ وهو (القدس في الضمير) اختيار موفق أيضاً. ذلك أن مدينة القدس، التي بين ربوعها المسجد الأقصى، لها في ضمير كل مخلص لأمته مكانة خاصة. وكان ما ارتكبه الصهاينة المحتلون لها - وما لا يزالون يرتكبونه - من محاولات التهويد وطمس الهوية جرائم تدمى لها القلوب المؤمنة وتتألم الضمائر.
|
كان مما أمدت به الأمانة العامة للمنتدى المشاركين في الندوة كتيّب صغير عنوانه: (القدس في الضمير). وهو من كتابة رئيس المنتدى الأمير الحسن بن طلال. ويشتمل على ثلاثة مقالات إحداها سبق أن كتبها بمناسبة مرور 38 سنة على إحراق المسجد الأقصى. ومما ورد فيها: (لقد مضى على الحريق المتعمد للمسجد الأقصى ما يقارب العقود الأربعة..) وبعد الإشارة إلى الأحداث المفجعة التي حلت بذلك المسجد قال الأمير: (حسبنا دليلاً على فقدان إرادتنا وروحنا اكتفاؤنا بالبكاء على الأطلال، وندب ما حلّ بنا وبمقدساتنا من دون أن نستنهض همنا للتصدي بحماسة وفتوَّة للتحديات والصعاب. أين الأمة العربية بكل مقدراتها مما يجري في فلسطين.. أرضنا المقدسة الطاهرة؟ إلى متى تبقى القدس تحت نير الاحتلال، وتبقى مساجدها وكنائسها حبيسة القهر والإذلال؟
|
في الجلسة الافتتاحية للندوة، صباح يوم الثلاثاء (3-3-2009م) كانت هناك كلمة للأمين العام للمنتدى، الدكتور حسن نافعة، ثم كلمة لأمين القدس، الحاج زكي الغول، وكان ختام تلك الجلسة كلمة لرئيس المنتدى وراعيه الأمير الحسن بن طلال. أما الجلسة البحثية الأولى فكان عنوان محورها هو عنوان الندوة كلها؛ وهو (القدس في الضمير). وكان الباحث فيها هو الدكتور محمد هاشن غوشه، الرئيس التنفيذي لدارة القدس للبحوث والتوثيق والإعلام. ومما ورد في بحثه إشارة إلى عدد من الزعماء الذين زاروا المسجد الأقصى. ومن هؤلاء الملك فيصل بن عبدالعزيز (الذي سكنت القدس في ضميره، وتمنَّى أن يصلي ولو ركعة واحدة في رحاب المسجد الأقصى). والذي يقرأ ما كتبه كيسنجر عن ذلك الملك يجد أنه يشير إلى أن ذلك الوزير كان يجلس مع الملك متحدثاً عن وعود بأن أمريكا مستعدة بأن تسهم إسهاماً كبيراً في تطوير المملكة، لكن إجابة الملك كانت دائماً: وماذا عن القدس؟ ولقد علَّقت على الإشارة إلى من أشار إليهم الباحث الكريم من الزعماء المسلمين، الذين زاروا المسجد الأقصى، بإضافة الملك سعود، الذي قال أمامه الشاعر الفلسطيني عبدالرحيم قصيدة منها:
|
المسجد الأقصى أجئت تزوره |
أم جئت من قبل الضياع تودِّعهْ؟ |
أما الجلسة البحثية الثانية فكانت عن (القدس في التاريخ). وكان الباحث فيها المهندس رائف نجم، نائب رئيس لجنة إعمار المسجد الأقصى، وكان هناك تداخل، أو تكامل، بين بحثه وبحث الدكتور غوشه المشار إليه سابقاً.
|
وقد سعدت، وتشرفت، برئاسة هذه الجلسة. ولأن الجو العام للندوة جو تعبير عن كون القدس في الضمير رأيت من المناسب إيراد أبيات سبق أن كتبتها على لسان مقاتل على الجبهة المصرية في الحرب مع الكيان الصهيوني عام 1973م. وكانت تلك الأبيات على هيئة رسائل من ذلك المقاتل إلى أمه. ومع أني أوردتها أمام المؤتمرين فإن حيِّز المقالة لا يتسع لما أوردت.
|
والرسالة الأولى تتحدث عن ألم مرسلها واللهو عن الجد في محاولة تحرير الأرض، وانخداع البعض بأنه يمكن تحريرها بدون حرب؛ قائلاً:
|
كأن مغتصباً لم يغتصب بلدي |
وأمتي لم يدنّس عرضها العار |
ومسجد القدس لم تذرف منائره |
دمعاً ولم تلتهم محرابه النار! |
أما الرسالة الثالثة من تلك الرسائل فتتحدث عمَّا تحقَّق من بطولات على الجبهتين المصرية والسورية مختتمة بقول ذلك المقاتل:
|
الآن يا أمي أعيد كرامتي |
أقضي على ذلِّي قضاء مبرما |
وغداً ربوع القدس تصبح حرَّة |
والمسجد الأقصى عزيزاً مكْرَما |
وأما الرسالة الرابعة، وهي الأخيرة، فعبَّر فيها عن ألمه لتوقُّف المواجهة مع العدو الصهيوني بعد أن كان يأمل بعدم توقِّفها حتى تحرَّر القدس بمسجدها الأقصى قائلاً:
|
توقَّفت طلقات النار عاد إلى |
مجاهل صوت ضجَّ واحتدما |
والقدس ما زال محتل يدنِّسها |
وغاصب في حماها يرفع العلما |
وعدت أبحث عن حلٍّ يقدِّمه |
من صبّ فوقي من ويلاته ضرما |
وعن وثيقة تخليص أوِّقعها |
في خيمة جرحت من أمتي الشمما |
وما حلَّ بأمتنا بعد توقيع تلك الوثيقة، التي قال البطل المقاتل: إنها جرحت الشمم من هذه الأمة كوارث انهزامات استسلامية في أكثرها حتى أصبح التفاوض - مجرد التفاوض - مع العدو الصهيوني نصراً لبعض زعاماتنا مع الأسف الشديد.
|
|