Al Jazirah NewsPaper Thursday  26/03/2009 G Issue 13328
الخميس 29 ربيع الأول 1430   العدد  13328
فيض الضمير
عبدالعزيز الرفاعي الأستاذ الذي تعلمتُ من إنسانيته (1)
د. محمد أبو بكر حميد

 

ما أكثر الذين حملوا لقب (أستاذ) ليحملهم ويعطيهم من وزنه مكانة، وقلة هم أفذاذ الرجال الذين يعطون لهذا اللقب من أسمائهم وزناً ومن قاماتهم هامة ومن خُلقهم وفكرهم تقديراً واحتراماً..

ومن هؤلاء الأساتذة الأفذاذ الذين يقهرون الموت بخلود ذكراهم في أذهان محبيهم كما قهروا الحياة بجلَدهم ونتاجهم وعظيم سلوكهم يظهر لي عبد العزيز الرفاعي

(1924 - 1994م) - كلما طافت بي ذكراه - بأستاذيته بكل ما فيها من ثقل وبكل ما تعنيه الكلمة من معنى، وما تحتمله من إيحاءات وظلال.. كان أستاذاً بحق لكل الذين عرفوه وأحبوه، ولكل الذين اقتربوا منه قصداً أو مصادفة فتعلموا منه.. كان أستاذاً لكل الذين يحضرون ندوته مساء كل خميس.. ولكل الذين أسعدهم الحظ بسماع حديث له أو محاضرة أو لقاء عابر.

لن أنسى ما حييت أول مرة حضرت فيها ندوته وأنا مشوق لمعرفة الرجل الذي قرأت له منذ سنوات طويلة وأُعجبت به.. كان المكان غاصاً بالناس وعند الخروج أشفقت عليه من وقوفه لتحية كل ضيف، فحاولت الهروب ليقيني أنه لا يعرفني، وما أن رفعت نظري إلى وجهه وتفرست ملامحه الهادئة المريحة وتمليت فيها حتى شدني إليه ذلك البريق الذي يشع من خلف نظارته فيشعر الناس بدفئه وهو يسلم عليهم بابتسامته الوديعة التي يُقال إنها لا تفارقه أبداً حتى في أكثر اللحظات حزنا وألماً.. وسلمت عليه بكلتا يدي وقدَّمني إليه من كنت أرافقه فحياني تحية من يعرفني من سنين وقال لي: (أهلاً يا دكتور محمد.. قرأت لك وأحب فيك وفاءك لباكثير.. أكمل مشروعك معه يا بُني فهو من أعظم من خدم أمتنا في هذا العصر).. وأسعدتني منه عبارة..(يا بُني) إذ شعرت فيها بأبوته الحنونة.. وما أن حل لقاء ثان حتى وجدته يناقشني في آخر ما كتب ويشد من أزري ويدعوني لزيارته في مكتبه، فتكررت عليه فما كنت أزوره إلا ويلقاني بترحاب من يزوره لأول مرة، وعرفت بذلك سراً من أسرار محبة الناس له.. ومنذ ذلك اليوم عرفت أنني أمام أستاذ بحق ووجدت نفسي أتعلم منه في كل لقاء.

إن من ينظر إلى وجه هذا الرجل ويتأمل مسلكه من الناس لا يملك إلا أن يحبه، قد تقرأ له وتعجب بما يكتب وما أكثر الذين يكتبون ما يثير الإعجاب.. وما أكثر الذين يؤلفون الكتب التي تتحدث عن المبادئ العظيمة.. لكن العمل بهذه المبادئ بين الناس مقدرة لا يقوى عليها إلا من أتاه الله موهبة تأليف قلوب الرجال، وقد ألَّف هذا الأستاذ من القلوب أضعاف ما ألَّف من الكتب.. كشفت ندوة الرفاعي عن مواهب مدفونة وفجَّرت ينابيع متنوعة في فنون الأدب تغذي قلوب الناس وعقولهم، وكان الأستاذ وسط هذا كله يعطي هؤلاء - دون أن يشعروا - من عقله وفكره وخلقه ما يجعل كل واحد من رواد ندوته أنه في بيته وأنهم جميعاً أساتذة وهو تلميذهم!

كان يحرص أن لا يتكلم أكثر من ضيوفه، وهذه خصلة في الخلق الكريم يغفلها الكثير من الذين يدعون الناس إلى بيوتهم فيجعلونهم يشعرون وكأنهم دعوهم ليستمعوا إليهم، ويشهد كل الذين ارتادوا ندوة الأستاذ حتى الذين زاروه مرة واحدة، بأنه من خيرة من يعرف حقوق الضيف والزائر له في منزله وفي ندوته وفي مكتبه، وهو من أحرص الناس في التعرف التام على من يلقى، فما أن تلقاه صدفة حتى تعجب حين تجده في اللقاء الثاني قد عرف اسمك كاملاً وعرف اهتماماتك وسألك عنها وناقشك فيها لتخرج من داره أو مكتبه متعجباً كيف لهذا الرجل أن يحفظ أسماء كل زواره ويتذكر اهتماماتهم!

كان عبد العزيز الرفاعي أستاذاً لسبب بسيط غاب عن الكثير من المشهورين الذين يصرون على أن يفرضوا أستاذيتهم على الناس، ذلك لأن عبد العزيز الرفاعي لم يتعامل مع أحد قط كأستاذ حتى سائقه وخادمه وموظفي داره كان يتعامل معهم كإخوة وكأبناء.. قال لسائقه ذات مرة: مثلك مثل ولدي فإن شعرت يوماً بأنك سائق تستطيع أن تتركني.. ولم يستطع السائق المسكين أن يداري دموع المحبة وهرع إلى غرفته يدعو الله أن يجعل قطرة من الحب الذي يملأ قلب عبد العزيز الرفاعي للناس في قلوب الذين يتعاملون بغلظة وغطرسة مع الذين يخدمونهم.

لم يحاول عبد العزيز الرفاعي أن يكون أستاذاً على أحد قط، بل كان يظهر لكل من يلقاه ويجلس إليه بأنه يتعلم ويستفيد من علمه، حتى الذين يسيئون إليه كان يرنو إليهم بنظرات ملؤها الحب والشفقة والسماح. أساء إليه مرة أحد محبي الظهور من جماعة (خالف تُعرف) بعد محاضرة عامة ألقاها الأستاذ وظن بعض الناس أن الأستاذ سيغضب وسيكيل لهذا الولد الصاع صاعين.. لكن شيئاً من هذا لم يحدث.. ابتسم الأستاذ عبد العزيز الرفاعي ونظر إليه بإشفاق ومحبة وقال له: (أفدتنا جزاك الله خيراً.. أحسنت!!) ودارت نخوة الشجاعة والمروءة برؤوس بعض الحضور، وبدؤوا يتعاورون المتأستذ بهجماتهم وردودهم.. فإذا بالأستاذ يتدخل ويحاول إسكاتهم واثقاً من نفسه قائلاً: (اتركوه فلكل مجتهد نصيب جزاه الله خيراً!!).. وكان ذلك الموقف أعظم درس علَّمه الأستاذ عبد العزيز الرفاعي للحضور فاق في بلاغته موضوع المحاضرة.. يومها ارتفع مكان عبد العزيز الرفاعي في قلوب الكثير من الذين سمعوا به ولم يعرفوه عن قرب.. وهكذا كان عبد العزيز الرفاعي - رحمه الله - أستاذاً بحق يُعلِّم الناس من كتبه ومحاضراته وندواته، ويضرب لهم أروع الأمثلة بخُلقه وسلوكه وسيرته فيهم.

ليسوا أساتذة هؤلاء الذين يعتقدون أنهم بعلمهم وحده قد أصبحوا أساتذة على الناس فيتعاملون مع عباد الله وكأنهم تلامذة لهم فلا يقيمون وزناً لصغير ولا تقديراً لكبير، ذلك لأنهم يعتبرون علمهم هو الرصيد الأساس الذي من خلاله يكسبون الناس، أما العلم الأساس فهو حسن الخُلق والتواضع ومحبة الناس، ولهذا عاش عبد العزيز الرفاعي أستاذاً له تلامذة.. وعاش بعض من لهم مثل علمه أو أكثر بلا تلامذة لأنهم لم يكن لهم خُلقه.

لقد أعطى عبد العزيز الرفاعي جيله الذي يليه جل وقته وخلاصة فكره وفتح لنا بيته الواسع وقلبه الأوسع على مصراعيه لنسهر ونجد ونهزل ونصب فيه مكنونات صدورنا، وهو بإنسانيته التي لا تُبارَى وخُلقه الإسلامي الرفيع الذي يُضرب به المثل كان يحتمل الجميع الأدنى والأعلى، على السواء.. وعلى حساب أعصابه وجسده الذي كان يمده الألم يكظم غيظه ويبتسم للمسيء مُرحِّباً، ليجعل كل ضيف في ندوته يشعر أنه المُحتفى به وحده.. وهذه مهمة عسيرة في عصرنا لا يقدر عليها إلا أمثال عبد العزيز الرفاعي الذين يحتملون ثقل الجبال ولا تنوء كواهلهم ولا يشعرون بتعب.. إنه فضل الله يؤتيه من يشاء.




 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

رأي الجزيرة

صفحات العدد