Al Jazirah NewsPaper Sunday  26/04/2009 G Issue 13359
الأحد 01 جمادى الأول 1430   العدد  13359
بين التسامح وصراع الحضارات
د. عبدالله بن فهد اللحيدان *

 

كان لظهور الإسلام في شبه الجزيرة العربية في القرن السابع الميلادي الأثر الأعظم في نقل المنطقة بأسرها من حالة الجهل والتخلف والعنصرية القبلية وعبادة الأوثان وتقديس الطاغوت إلى عبادة الإله الواحد وإزالة الفروق بين البشر. قام الحكم في الإسلام على ثلاث دعامات رئيسة: العدل، الشورى والتسامح، ويقصد بالعدل تطبيق الشريعة بإعطاء كل ذي حق حقه من ثواب أو عقاب بغض النظر عن صفة اعتبارية أو لون أو عرق أو دين. وتعني الشورى وضع الرجل المناسب في المكان المناسب وإتاحة الفرصة أمام جميع الرعايا لممارسة عملهم ونشاطهم اقتصاديا أكان أم اجتماعيا أم علمياً.

وأما التسامح فيعني العفو والتجاوز؛ فالتسامح مرتبط بالتعددية وقبول الاختلاف والسماح بحرية الرأي مما يؤدي إلى العفو والتجاوز والتسامح لا يعني الضعف والمداهنة التي تغطي على الخلافات وتعمل على ترميمها ظاهريا وتلفق موقف اتفاق زائف لكنه يعني الاعتراف بالاختلاف ويمنع هذا الاختلاف من التطور إلى محاولات الإلغاء ويؤدي قبوله إلى التعايش السلمي المشترك وللتسامح حدود فهو لا يعني الخنوع والاستسلام للعدوان بل إذن للمسلمين برد العدوان: {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ} وقال تعالى: {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُواْ بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُم بِهِ وَلَئِن صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِّلصَّابِرينَ} إن الإسلام دين التسامح بحق. يقول تعالى: { لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِن بِاللّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَىَ لاَ انفِصَامَ لَهَا وَاللّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} (256) سورة البقرة لقد قبل الرسول - صلى الله عليه وسلم - أن يصبح اليهود جزءاً من رعايا الدولة الإسلامية الأولى في المدينة المنورة ولم يجبرهم على ترك دينهم واعتناق الإسلام. والأصل في التعامل مع الناس جميعاً في الإسلام هو التسامح بمعنى الرفق والعفو والتجاوز قال صلى الله عليه وسلم (إن الله يحب الرفق في الأمر كله). وبسبب التسامح لم يجد العلماء والمفكرون المسلمون حرجاً من الاستفادة من كل ما وقع تحت أيديهم من علوم واكتشافات وحتى فلسفات لشعوب أخرى بغض النظر عن دينها أو عرقها حيث لم يخرج ذلك عن نطاق النصوص الشرعية الإسلامية التي أمرتهم بالبحث عن المعرفة أينما وجدت.

بالطبع، لم يعدم التاريخ الإسلامي الطويل وجود حكام دكتاتوريين وطامعين سياسيين وأصحاب مصالح مادية بحتة كما لم يعدم وجود الباحثين عن السلطان والجاه والنفوذ، غير أن الوعي الديني الصحيح بين كافة فئات الناس من قادة وخاصة وعامة ومن علماء وباحثين ومستشارين وأدباء وحتى عامة الناس، هذا الوعي كان يقوِّم دائماً الانحراف في مسيرة الحضارة الإسلامية.

وهذا الموقف المتسامح تجاه الآخر لا نجده في كثير من الأديان والأيدلوجيات المعاصرة؛ فالشيوعية كانت تعد قبول الناس جميعاً لها أمراً حتمياً. وقريب من هذا رأي فوكوياما في كتابه (نهاية التاريخ) حيث اعتبر أن الليبرالية والرأسمالية نهاية المطاف لكل النظم المخالفة لها. إن مثل هذه التنبؤات تجعل صاحب المعتقد الذي تنبأ بها يضيق بالآخر ويعده سائراً ضد حركة التاريخ، ومحكوماً عليه بالنفاء، فلا يبالي بالكيفية التي يعامله بها، بل قد لا يبالي بالتخلص منه معتقداً أنه إنما يساعد بذلك حركة التاريخ.

أوضح مثال في عصرنا على عدم التسامح والرغبة الجامحة في السيطرة، هو حال بعض المفكرين في الغرب؛ فالأستاذ هنتجتون مثلاًُ يقرر في (صدام الحضارات) أن الغرب هو المسيطر الآن على المؤسسات العالمية السياسية والاقتصادية، وأن القرارات التي تتخذها الأمم المتحدة أو مجلس الأمن أو صندوق النقد الدولي والتي تعبر عن مصالح الغرب تبرز للعالم على أنها المعبرة عن مصالح المجتمع الدولي. بل إن عبارة المجتمع الدولي (التي حلت محل عبارة العالم الحر أثناء الحرب الباردة) صارت هي نفسها الاسم الملطف الذي يمنح الشرعية لكل الأعمال المعبرة عن مصالح الغرب.

وفي مفهوم هنتجتون لصراع الحضارات يبرز الإسلام كطرف ثابت في الصراع مع الغرب حيث يقول هنتنجتون إن النزاع وفق خط التقسيم بين الحضارتين الغربية والإسلامية مستمر منذ 1300 سنة.

وليس من المرجح أن ينحسر بل قد يصبح أكثر خطراً (كما يقول) والإسلام يتصادم مع حضارات أخرى في عالمه وعلى حدوده مثل الصرب الارثودكس في البلقان واليهود في إسرائيل والهندوس في الهند والبوذيين في بورما والكاثوليك في الفلبين ويختتم بالعبارة الحاسمة (إن للإسلام حدوداً دموية).

إلا أن هنتجتون واجه هجوماً شديداً لآرائه وبدا أنها تراجعت خصوصاً مع تدخل أمريكا مرتين في العام 1996م والعام 1999 لإيقاف الحرب في البلقان. لكن أحداث 11 سبتمبر أعادت الأمور إلى نقطة الصفر.

* وكيل وزارة الشؤون الإسلامية المساعد



 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

رأي الجزيرة

صفحات العدد