الحمد لله والصلاة والسلام على أشرف خلق الله، لا شك أن الموت حقيقة قاسية رهيبة تواجه كل حي، فلا يملك لها رداً، ولا يستطيع لها أحد ممن حوله دفعا، وهي تتكرر في كل لحظة وتتعاقب على مر الأزمنة، يواجهها الجميع صغاراً وكباراً، أغنياء وفقراء، أقوياء وضعفاء، ومرضى وأصحاء، قال تعالى: { قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلَاقِيكُمْ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} (8) سورة الجمعة، إنها نهاية الحياة فالجميع يموتون.
لعلي بدأت بهذه المقدمة كي أخفف على نفسي هول المصيبة وفداحة الفاجعة التي ألمت بي وبأسرتي بداية الأسبوع الماضي، حيث شاء الله جلّ وعلا أن يختار إلى جواره سيدة منزلي، وأم أولادي، وقرة عيني، ورفيقة دربي، غاليتي ومهجتي أم تركي السيدة زينب بنت محمد الحمد المالك، كان يوم السبت الماضي 22-4- 1430هـ، يوماً عصيباً كئيباً بمقاييسنا البشرية ونحن نتلقى نبأ وفاتها وهو الخطب الأفظع، والأمر الأشنع، والكأس التي طعمها أكره وأبشع، ولكن الحقيقة، حقيقة هادم اللذات، والأقطع للراحات، نعم إنها الفاجعة بفقدان غاليتنا، فما أجملها من امرأة، وما أروعها من أم، وما ألطفها من صديقة، وما أروعها من جليسة، وأحلمها عند الخصام، وما أزكى نفسها عند العتاب، وما أكرمها عند العطاء، وما أعفها في البحث عن متع الحياة وزخرفها، وزينتها الفانية. فسبحان من أودع في شخصيتها المشرقة النبل، والكرم والعفاف صفات قل أن تجتمع في امرأة واحدة.
لقد اقترنتُ بأم تركي حال تخرجي وانتقلت معي من حياة الرغد والرفاه والعز، من بيت والدها حفظه الله خالي الشيخ محمد بن حمد المالك، وكان حينها وكيل وزارة، يعج بيته بالخدم والحشم، ومنزله بالعز، وأبناؤه يتمتعون بالرفاه، إلى منزل زوجها، رافقتني حيث عملي في مدينة الطائف، على قدر تواضع الحال في المسكن ذلك الزمان، كانت نعم الزوجة الصابرة والمثابرة، تمارس أعمال التدريس بالنهار، وإدارة المنزل في الوقت الآخر، حتى في خارج المملكة إبان إكمال مسيرتي العلمية، لقد كابدت كثيراً وتحملت الأكثر، كي تهيئ لي الظروف المناسبة لمواصلة الدراسة والبحث، لقد كانت رائعة وعلمتني صفات أروع، كانت مديرة منزل ومدبرة شؤونه، وكان كل همها طاعة الله ثم بيتها وأبناؤها، وزوجها، لله درها ما أروعها، رحمها الله، كيف كانت حريصة على سمعة بيتها، سبحان من أودع فيك يا غاليتي حب الكرم، وغرس فيك الشوق إلى رفعة أسرتنا، وسبحان من أعطاك الحرص على كل شأن يرفع الرأس، كُنت أعجب ولا أزال بالمتابعة الدقيقة، وطرقك القويمة التي كنت تتبعينها في تربية أبنائك وبناتك، ما زلت أتذكر مرورك عليهم فرداً فرداً لإيقاظهم للصلوات، كل الصلوات، وحثك لهم عليها بأسلوب المعلمة الحصيفة، والمربية الفاضلة، والأم الوقورة، مع تفقدك أحوالهم فرداً فرداً، فسبحان من أودع فيك طاعة الله، وحب التقرب إليه بالنوافل، الله أكبر كم من يوم ويوم، وكم من ليلة وليلة، رأيتك فيها على سجادة الصلاة فكنت أشفق عليك من الإرهاق وأنت تستقبلينني بنفس زكية، لله درك ما أتقاكِ، فاجأتيني بمن يأتون للعزاء وهم حزينون على فرقاك وعند السؤال عنهم عرفت بأنك كنت تغدقين عليهم من مالك، دون أن تعلم يسارك ما تنفق يمينك، لله درك ما أكرمك، حبيبتي وغاليتي، وفقيدتي، نعم فقيدتي لأنك كنت شمعة تحترق كي تضيء للجميع بقدر ما كنت تاجاً على رؤوس أسرتك الصغيرة، كنت ذات مكانة عالية بين كافة أفراد العائلة لما تمتعت به من حب الجميع لوصلك الرحم، وحرصك على البقاء على اتصال بالجميع تشاركين الجميع أفراحهم وأتراحهم، سعادتهم، وشقاءهم، كنت حلقة وصل للجميع والكل ينظر إليك بعين الأم على الرغم من صغر سنك بينهم، ولكنها رجاحة العقل. لله درك ما أتقاكِ.
لقد كنت أيتها الفقيدة الغالية ذات همة عالية وتركتي في نفسي مكانة غالية كيف لا؟ وقد عملت وبحرص شديد على ألا تلهيني مشاغلي العملية عن صلتي بأهلي، فكنت تذكرينني تارة وتحددين لي المواعيد تارة أخرى كي أزور بمفردي، أو تكوني بمعيتي لجميع أقربائنا مما كان له الأثر الأكبر في زيادة اللحمة، وها أنت تغادريننا إلى جنة الخلد بحول الله ونحن أكثر محبة والتصاقا.. تغمدك الله برحمتهِ.
الله أكبر كم كانت ترخص الدنيا في عينيها حينما تحط رحالها في مكة المكرمة في شهر رمضان وغيره من الشهور، كنت أرى فيها العابدة الزاهدة الحريصة على كل دقيقة أن تقضيها في طاعة الله للبحث عما عند الله سبحانه، وعندما أسألها ترد علي وبرقة وعذوبة وأدب جم، لا يخلو من الوقار وهي تقول: وما الذي يضمن لنا يا أبا تركي أن نعود مرة أخرى إلى مكة فهذه فرصة، نعم وفعلاً كانت آخر فرصة واكتشفت قبل خمسة أيام من يوم وفاتها أنها حسبتها بدقة لله درك يا أم تركي، كم كنت حصيفة، وها أنذا أختم خاطرتي بشيء لا يغيب عن بالي وأعجبني كثيراً ولكن ما زلت أرده إلى الوفاء وحسن التربية، فقد أعجبت أيما إعجاب بأبنائي وبناتي وطريقة تعاملهم الراقية مع والدتهم التي لا تخلو من الحب والحنان، والطاعة والرضى، فها هو ابني تركي وزوجته نورة وشقيقته مها وزوجها زياد يتنازلون عن حفل زواجهم ويختصرون مراسم الزواج (بدون حفل) تقديراً لوالدتهم.، وخالد حينما يضحي بمستقبله ودراسته ليكون بجانب والدته، وجميع بناتي الرائعات اللواتي أرى فيهن شخصية الأم وتصرفاتها، ورزانتها ورجاحة عقلها، إذاً حتى بعد مماتها رحمها الله تركت لي إرثاً لا يقدر بأموال الدنيا أبناء وبنات صالحين رائعين أحمد الله عليهم، كما لا يفوتني الثناء مقروناً بالدعاء لأزواج بناتي ابنيَّ ممدوح وزياد، وكذا زوجة ابني تركي العزيزة نورة الذين كان لهم دور رائع ومشرف في الوقوف بجانبنا أثناء مرضها، وأخيراً فإنَّ من حق الوفاء عليَّ أن أوفي لخالي ووالدي الغالي الشيخ محمد بن حمد المالك. وخالتي ووالدتي الفاضلة أم منصور وكافة أبنائهم وبناتهم الأوفياء الذين كانوا معناً قلباً وقالباً بوقفاتهم الدائمة، ومرافقاتهم المستمرة لابنتهم وأختهم أم تركي في المستشفى، لقد حملوا معنا العناء وشاركونا في المهام فأنعم وأكرم بهم من أسرة فاضلة، وأسأل الله أن يجبرنا في مصابنا وأن يجمعنا وإياها في جنات النعيم، إنه ولي ذلك والقادر عليه، واطمئني يا أم تركي بأننا عاهدنا الله على ألا نقطع خطاك وستظل يدك الممدودة بالخير قائمة. وأسأل الله أن يكتب لك أجر الدارين الدنيا والآخرة.
* مدير عام إدارة الشؤون العامة للقوات المسلحة