Al Jazirah NewsPaper Wednesday  29/04/2009 G Issue 13362
الاربعاء 04 جمادى الأول 1430   العدد  13362
خيانة رجال الاقتصاد
روبرت سكيدلسكي

 

إن كل الأحداث المحددة لأي عصر تأتي نتيجة لملابسات متشابكة - علاقة الارتباط بين الأحداث غير المترابطة عادة والتي تخرج الإنسانية عن روتينها اللاهي المعتاد. ومثل هذه الملابسات تؤدي إلى خلق ما أطلق عليه المؤلف نسيم نيكولاس طالب (البجعات السود) - أحداث غير متوقعة تخلف تأثيرات واسعة النطاق. ويعتقد نسيم أن عدداً قليلاً من هذه البجعات السود (يكفي لتفسير كل شيء تقريباً في عالمنا).

على سبيل المثال، كان ازدهار عصر العولمة الأول قبل عام 1914 ناجماً عن مجموعة ناجحة من التطورات: انخفاض تكاليف النقل والاتصالات، والطفرة التكنولوجية التي صاحبت الثورة الصناعية الثانية، والهدوء النسبي الذي ساد العلاقات الدولية، ونجاح بريطانيا العظمى في إدارة معيار الذهب. وفي المقابل، اجتمعت السياسات الدولية السامة أثناء فترة ما بين الحربين العالميتين مع الخلل في التوازن الاقتصادي العالمي لخلق أزمة الكساد الأعظم وتمهيد الساحة العالمية لاندلاع الحرب العالمية الثانية.

والآن تعالوا بنا نتأمل الابتكارات المالية الأخيرة. على ظهر تكنولوجيا الكمبيوتر والاتصالات الحديثة، أقيمت سوق عملاقة للأدوات المالية المشتقة. وكانت التزامات الدين الجانبية (التي ارتبطت أساساً بالرهن العقاري) سبباً في ظهور مجموعة جديدة من أصحاب المساكن الطامحين الذين يفترض فيهم الجدارة الائتمانية، وذلك من خلال تمكين البنوك المصدرة لهذه الالتزامات ببيع ديون (الرهن العقاري الثانوي) لمستثمرين آخرين.

قبل تحويل هذه الديون إلى أوراق مالية، كانت البنوك تحتفظ في دفاترها عادة بديون الرهن العقاري؛ والآن أصبح بوسعها أن تشطبها من دفاتر موازناتها. ولكن الديون المحولة إلى أوراق مالية والمشطوبة من دفاتر موازنة أحد البنوك تنتهي عادة إلى دفاتر موازنة بنك آخر. ونتج عن ذلك نظام مدهش لتنويع المجازفة المصرفية الفردية، ولكن ذلك كان على حساب تضخيم خطر العجز عن السداد بين كل البنوك التي احتفظت بما أطلق عليه لاحقاً (الديون السامة). ولأن كل المشتقات المالية كانت تستند إلى نفس الأصول، فإن كافة البنوك المحتفظة بهذه الديون كانت تنزلق إلى مستنقع واحد إذا ما حدث أي شيء لتلك الأصول.

وكانت السهولة التي توسع بها حجم الديون بالنسبة لمجموعة معينة من الأصول الحقيقية سبباً في تمكين هذه المشتقات من الانتشار. وتضخمت إمكانية توسع الدين هذه بسبب استخدام سندات مقايضة العجز عن سداد الائتمان، والتي خدمت كأداة تأمين زائفة ضد العجز عن السداد. ومع توفر إمكانية بيع عدد غير محدود من سندات مقايضة العجز عن سداد الائتمان في مقابل كل مقترض، فقد تسنى للمتاح من سندات المقايضة أن ينمو بسرعة أكبر من المعروض من السندات.

لقد تسببت سندات مقايضة العجز عن سداد الائتمان في تضخيم حجم الفقاعة من خلال زيادة سرعة الدورة النقدية، فشهد سوق التزامات الدين الجانبية نمواً هائلاً، من 275 مليار دولار إلى 4,7 تريليونات دولار في غضون الفترة من عام 2000 إلى 2006 بينما كانت سرعة نمو سوق سندات مقايضة العجز عن سداد الائتمان أربعة أمثال سرعة نمو سوق التزامات الدين الجانبية، حيث ارتفعت من 920 مليار دولار في عام 2001 إلى 62 تريليون دولار بحلول نهاية عام 2007م.

كانت سندات مقايضة العجز عن سداد الائتمان بمثابة الوسيلة التي وجدت بها المشتقات المالية سبيلها إلى محافظ استثمار البنوك في مختلف أنحاء العالم. ولكن اعتماد الهيكل كله على استمرار أسعار المساكن في الارتفاع نادراً ما كان واضحاً. وحين بدأت أسواق الإسكان في الانحدار فكان من المحتم أن تتحول هذه الضمانات الورقية للسلامة إلى (أسلحة مالية للدمار الشامل) طبقاً لتعبير وارين بافيت.

بيد أن الوساطة المالية ما كانت لتجلب كارثة بهذا الحجم أبداً لولا خلل التوازن العالمي الناجم عن العجز المزدوج الهائل في الولايات المتحدة (العجز التجاري وعجز الموازنة)، وهو العجز الذي مولته المدخرات الصينية إلى حد كبير. وكان من المفترض أن يمنع تعويم أسعار الصرف بلدان العالم من التلاعب بأسعار العملات، ولكن بتكديس كميات هائلة من سندات خزانة الولايات المتحدة تمكنت بلدان شرق آسيا، وبخاصة الصين، من إبقاء أسعار صرف عملاتها منخفضة بشكل مصطنع. وكانت (تخمة الادخار) الشرق آسيوية هذه سبباً في تغذية الإفراط في الاستهلاك القائم على الاستدانة في الولايات المتحدة وبريطانيا والقسم الأعظم من العالم الغربي.

غير أن المزاوجة بين المدخرات الصينية والاستهلاك الأمريكي كانت تعاني من عيب قاتل: فقد أدت إلى خلق ديون غير قابلة للسداد. ذلك أن الاستثمارات الصينية اتخذت على نحو متزايد هيئة المشتريات الرسمية لأذون خزانة الولايات المتحدة. ولم تخلق هذه الاستثمارات موارد جديدة لتوفير سبل السداد. ففي مقابل تراكم ديون الولايات المتحدة تحول قسم كبير من طاقة التصنيع الأمريكية إلى الصين. ولم تستخدم المدخرات الصينية لخلق أصول جديدة، بل تدفقت إلى قنوات المضاربة المالية والانغماس في الاستهلاك.

وكانت المدخرات الصينية (الفائضة) سبباً في تمكين التوسع الائتماني في أمريكا أثناء الفترة 2003-2005، حين كان سعر الفائدة على الأرصدة الفيدرالية ثابتاً عند 1% (سعر الإقراض بين بنوك الولايات المتحدة لليلة واحدة). ونتج عن هذه الأموال الرخيصة للغاية طفرة في قروض الرهن العقاري الثانوي - السوق التي انهارت حين ارتفعت أسعار الفائدة على نحو مضطرد بعد عام 2005 حتى بلغت 5%. وكانت الأزمة المالية في عام 2008 بداية لعملية مؤلمة لا مفر منها، ألا وهي التخلص من الروافع المالية.

الحقيقة أن هذا التفسير لأصل الركود الحالي غير مقبول لدى مدرسة (التخمة المالية). فهم يرون أن الأزمة المالية كانت ناتجة عن سبب واحد لا غير: الإفراط في خلق الائتمان الذي حدث حين كان ألان غيرنسبان رئيساً لبنك الاحتياطي الفيدرالي في الولايات المتحدة.

يستند هذا الرأي إلى النظرية (النمساوية) في تفسير الرواج والركود، كما يستند إلى تفسير ميلتون فريدمان لأزمة الكساد الأعظم في عام 1929 غير أن ذلك ليس بالتفسير السليم، لا آنذاك ولا الآن.

وهذا يشير إلى وجود سبب أكثر جوهرية للأزمة المالية: والذي يتلخص في هيمنة مدرسة شيكاغو الاقتصادية، التي تؤمن بخصائص التنظيم الذاتي التي تتمتع بها الأسواق المتحررة من القيود. وكان هذا الاعتقاد حجة لتبرير أو تقنين إلغاء التنظيمات المفروضة على الأسواق المالية باسم فرضية (كفاءة الأسواق) المزعومة. ولقد أدى هذا بشكل مباشر إلى انتشار نماذج إدارة المجازفة المالية، والتي استخفت على نحو فادح بحجم المجازفة حين استبعدت احتمالات العجز عن السداد.

***

روبرت سكيدلسكي عضو مجلس اللوردات البريطاني، وأستاذ فخري لعلوم الاقتصاد السياسي بجامعة وارويك.

خاص «الجزيرة»



 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

رأي الجزيرة

صفحات العدد