جاءني أحد الرفاق يوماً وأسراب من طيور الهم قد بنت أعشاشها في رأسه، وقد بدا عليه الشحوب واليأس، فساءني منظره وأقلقني حاله، فسألته: ما بال الهم قد كساك والغم قد غطاك ؟
|
فأجاب بانكسار: لا تلُمني يا صاحبي، فلقد بدا لي اليوم ما لم يكن في حسباني، وداهمني على حين غرة ما كنت عنه غافلاً بالمرَّة، وقد عُيِّرتُ من حليلتي بما عُيِّرَ به الأوائل، ورأيت الشيب قد غزاني، فما كان بالأمس القريب ثلاث شعرات بِيض ٍ في الرأس قد أصبحت عشرات
|
|
هنا لم أتمالك نفسي من الضحك، وضحكت حتى أنه ضحك من ضحكي،
|
وقلت له: الحمد لله رب العالمين، لقد هانت، أخزى الله الشيطان لقد ظننت أن كارثة قد حلَّت بك.
|
فقال: وهل هناك كارثة ومصيبة أعظم من الشيب ؟
|
أجبته سريعاً: نعم، ثم مَن قال لك إن الشيب وظهوره في الرأس كارثة؟
|
وتابعت قائلاً: يا عزيزي أبا الليان، إن الشيب كما قال الأقدمون وقار، وظهوره من دلائل وعلامات اكتمال المدارك ونضج المرء وتمام العقل، فما الذي يجعلك تهتم وتغتم لظهوره، فهو لا يعني أن إحدى رجليك في البيت، والأخرى في القبر أبقاك الله وحفظك من كل سوء.
|
فبدت أساريره وكأن غمامة بل سُحب الهم قد بدأت تنقشع من فوق رأسه،
|
وقال: إذاً ما علامات الكِبَر والشيخوخة التي تدل على ضعف المرء، وتعيبه عند زوجته حقيقةً ؟
|
فذكرت له أبياتاً قالها الشاعر (المستوغر) معدداً علامات الكبر والهرم،والتي تجعل المرء إلى الموت أقرب منه إلى الحياة، حتى وإن كان هذا الموت موتاً معنوياً، والتي يقول فيها:
|
سَلني أُنَبِّئكَ بِآياتِ الكِبَر
|
نَومُ العِشاءِ وَسُعالٌ بِالسَحَر
|
وَقِلة النَومِ إِذا اللَيلُ اِعتَكَر
|
وَقِلة الطُعمِ إِذا الزادُ حَضَر
|
وَسُرعَة ُ الطَرفِ وَتَحميجُ النَظر
|
وَتَركُكَ الحَسناءَ من بعد الطُهر
|
وَالناسُ يبلَونَ كَما يَبلى الشَجَر
|
ثم قلت له: إن أردت من زوجتك ألا تعود لما عيَّرتك به، فاذكر لها تلك الأبيات مع الشرح الوافي الممل، وإن لم ترتدع فارفع سلاح التعدد في وجهها، وبيِّن لها أن الشباب شباب القلب والروح، وأنها إن لم تملأ قلبك حُباً وسعادةً فهو يتسع لثلاثٍ معها حلالاً زلالاً، وستجد النتيجة فتاكة بإذن الله الواحد الأحد.
|
|
|
تفاريق شيب في السواد لوامع |
وما خير ليل ليس فيه نجوم |
|