لا يزال المكان يحتفظ بأطيافهم، ويعيد تجسيد المشهد كاملاً وهم يحلقون من حوله، كلهم آذان صاغية يحرصون على ألا تفوتهم كلمة واحدة مما يقول، فهو بالنسبة لهم يمثل الحكمة والقيادة والرؤى الواعدة المغموسة بخبرة السنين، ومن فرط حرصهم قد يدونون في مذكرات صغيرة يحملونها بعضاً مما يقول علهم إذا رجعوا إلى مكاتبهم يستذكرونها ويستعينون بها بعد الاستعانة بالله على ما يكفل لهم النجاح والتوفيق في أعمالهم.
هؤلاء الناس باتصالاتهم وحرصهم على طلب النصح والمشورة أو الحصول على توجيه منه يذلل عقبة استعصت عليهم، يعززون في نفسه هذا الشعور بأنه فعلاً الحكيم العارف بخفايا الأمور وبواطنها والقادر بما حباه الله من إمكانات أن يتلمس أفضل طرق النجاح والنهوض بالواجبات والمسؤوليات، فلا يتردد بدوره أن يجود على غيره مما آتاه الله من حكمة ومعرفة.. هذه الصورة كانت بالأمس القريب فقط لا يفصلها عن واقع الحال غير أيام معدودة، لكن الصورة التي تظهر الآن تختلف كلياً عن تلك الصورة الزاهية التي بعثت دون إرادة منه شيئاً من الزهو والاعتزاز في نفسه وإن لم يتغير المشهد العام في شكله، فهم لا يزالون يتحلقون من حوله لا ليتعلموا منه أو ليستأنسوا برأيه ومشورته كما كانوا دائماً يفعلون، لكنهم هذه المرة يحيطون به ليعلموه ويرشدوه فقد تحول الجمع في غضون أيام معدودة إلى ناصحين عارفين يدركون من أموره أكثر مما يدرك، وأصبح هو في هذه الأيام المعدودة أيضاً الأضعف بينهم والأقل معرفة وفهماً تتطلب الحال نصحه وتوجيهه، فهذا يقترح حتى لا يموت قاعداً أن يفعل كذا، والآخر يرى حتى لا يضيق به الوقت أن يلهي نفسه بكذا، ونصائح من هذا القبيل لا تنقطع تؤكد أنهم باتوا الآن يعرفون أكثر مما يعرف، ويفهمون الدنيا أكثر مما يفهم، ما الذي قلب الحال من تلك إلى هذه؟ وما الذي تغير؟ لا شيء، فهو كما هو، وما يحمله في رأسه من معرفة بقي كما هو لم يتغير إن لم يزد خلال هذه الفترة التي فصلت بين الحالين. المسألة تزداد تعقيداً وألماً عندما يتعامل مع المحيط الخارجي لعمله السابق، فهو الآن متقاعد وبهذا اللقب الجديد الخطر المفروض عليه لم تسحب منه سنوات خدمته وما أحدثه فيها، ولم تسلب منه حكمته ومعرفته فقط، بل سلب منه ما تبقى من حياته بعد أن وضعه الآخرون في قائمة المحذورات يتجنبون التعامل معه لأنهم يظنون أنه أقرب للموت منهم والدخول معه في معاملات أياً كانت ما هو إلا مغامرة غير محسوبة العواقب، وما كان يركن إليه أيام سنوات عطائه مما يسمعه من مسؤولين كثر، ما هو إ لا كلام مرصوص وخطب عصماء بليغة يستفيد منها من لم تأت لحظة دفنه حياً.. يفهم الآن بعد فوات الأوان لماذا يستميت غيره ليبقى على كرسيه حتى وهو يحمل على نقالة.. ما أقسى أن يدفن المرء حياً.. والله المستعان.